بعد تراجع الثقة بالولايات المتحدة

أوروبا تريد الاستقلال الاستراتيجي والبحث عن مكانتها في العالم

صورة

عندما أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أنه سيعيد ترشيح نفسه خلال الأسبوع المنصرم، أدرك حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا ما يعني ذلك بالضبط لمستقبل العلاقات بين طرفي الأطلسي. ولا يخفى على أحد أن لدى انتشار الأخبار بأن بايدن فاز بمنصب الرئاسة في عام 2020، شعر القادة الأوروبيون بالراحة، لكون الشخص الذي سيدخل إلى البيت الأبيض أكثر تمسكاً بالديمقراطية التقليدية، ولكنهم أدركوا أيضاً أن بايدن لن يكون قادراً على إصلاح كل الأضرار التي نجمت عن وجود سلفه دونالد ترامب في البيت الأبيض لأربع سنوات.

وكان ترامب قائداً فوضوياً عمل على انتقاد حلفاء أميركا الأوروبيين باستمرار، وهدد بشن حرب تجارية على كل شيء، بدءاً بالجبنة وحتى الطائرات. وشكك بمبادئ حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وانتقد الاتحاد الأوروبي، وقال لو أنه يحكم المملكة المتحدة، فإنه لن يدفع فاتورة 62 مليار دولار لقاء الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، التي يتعين على بريطانيا دفعها للاتحاد الأوروبي.

سنوات ترامب

وثمة سببان رئيسان لعدم تخلص الاتحاد الأوروبي من سنوات ترامب، الأول، إذا كان ترامب قد وصل إلى السلطة في واشنطن لمرة واحدة، فليس هناك أي سبب يمنع من وصوله أو أي شخص آخر شبيه له مرة ثانية. وثانياً، يعتقد الأوروبيون أن بايدن قد واصل العمل بكثير من أشكال السياسات الخارجية التي انتهجها ترامب، مثل حماية التجارة، وفرض أقصى الضغوط على الصين. وستؤثر هاتان الحقيقتان في النهج الأوروبي في التعامل مع أميركا ومكانتها في النظام العالمي، على الأقل خلال العقد المقبل.

وعندما تتحدث مع الدبلوماسيين أو المسؤولين الأوروبيين، باتت كلمة «ثقة» تتكرر كثيراً في أحاديثهم. وكلمة الثقة ليست في نوايا الولايات المتحدة كحليف فقط، وإنما الثقة بالنظام الديمقراطي للولايات المتحدة. وقال أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين لمحطة «سي إن إن»: «نحن ننظر لما حدث في السادس من يناير، ونتساءل ما إذا كان سيحدث أمر مشابه أو ربما أسوأ منه مرة أخرى، بحيث ينهار النظام السياسي معه. ونحن ننظر إلى الانقسامات التي تصيب الدولة، ونتساءل ما إذا كنا نستطيع الثقة بأن الولايات المتحدة لن تضاعف إجراءات الحماية التجارية، وأجندة «أميركا أولاً»، وأضاف: «نحن لا نستطيع تحمل الاعتماد الكبير على حليف لا نثق بأنه سيكون مستقراً».

شكوك في واشنطن

وأدى عدم وجود الثقة إلى حدوث شكوك عامة في الولايات المتحدة، إلى تولد ما يشار إليه في أوروبا بأنه أجندة الاستقلال الاستراتيجي، وهي محاولة الاتحاد الأوروبي لأن تكون له سياسة خارجية مستقلة التي تجعله أقل اعتماداً على الولايات المتحدة. وتمثل الجزء الأساسي في هذه الأجندة احتفاظ أوروبا بعلاقات اقتصادية وثيقة مع الصين، وهو الأمر الذي لن يكون مقبولاً لدى الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة هذه الأيام.

وأوضح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وجهة نظره المتعلقة بالاستقلال الاستراتيجي أخيراً، عندما تحدث مع صحيفة «بوليتيكو» الأميركية، ومفادها أن أوروبا يجب أن تصبح غير «تابعة» للولايات المتحدة في ما يتعلق بالصين، وكانت هذه التعليقات مثيرة للجدل، لأنها جاءت رداً على سؤال مفاده ما الذي يمكن أن تفعله أوروبا إذا اجتاحت الصين تايوان، ولكن بصورة عامة فإن دول الاتحاد الأوروبي البالغ تعدادها 27 دولة تؤيد الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة، وإن كان بدرجات متفاوتة في الموقف إزاء الصين.

نهج مختلف

وأدت حقيقة المخاوف الأوروبية إزاء أميركا الحديثة إلى جعل أكبر المتشككين في الصين من دول الاتحاد الأوروبي إلى قبول حقيقة أن أوروبا يجب أن تتخذ نهجاً مختلفاً الآن إزاء بكين بعيداً عن واشنطن، وهذا لا يعني أن دول الاتحاد الأوروبي سعيدة بالحقيقة الجديدة، إذ تخشى بعض الدول الأوروبية، خاصة في الكتلة الشرقية، أن إغراء الأسواق الصينية، ورخص العمالة فيها، إلى جعل أقرانها من الدول الأوروبية الأخرى تميل إلى الاعتماد الكلي اقتصادياً على الصين. وقال دبلوماسي أوروبي شرقي: «علينا التخلص من خطر العلاقة مع الصين، وهو الأمر غير الموجود مع روسيا. وتساورني المخاوف بأننا نقلل من خطر العلاقة مع الصين». وحتى أكثر الصقور تشدداً أصبحوا يتحدثون عن التخلص من خطر العلاقات مع الصين، وليس قطع العلاقات معها بصورة كلية. وعلى الجانب الأميركي يبدو أن المسؤولين الأميركيين متفائلون بأن أوروبا ستعود ذات يوم إلى رشدها، وتتبنى موقفاً قريباً من الموقف الأميركي تجاه الصين، والذي يعتبر معادياً للصين في ما يتعلق بالتجارة، وتطوير التقنيات الحديثة.

طائر الكناري

وقال مسؤول في الحكومة الأميركية لمحطة «سي إن إن»: «لطالما كانت أميركا عبارة عن طائر كناري في منجم فحم، ونحن نقرع الجرس حول خطر الصين، ولكن يبدو أن الأوروبيين يريدون وقتاً أطول حتى يسمعوه، وأوروبا لها علاقات كثيرة مع الصين».

وقال مسؤول أميركي ثانٍ لـ«سي إن إن» إن الدرس الرئيس الذي تم تعلمه من إدارة ترامب بالنسبة للحلفاء أن الحفاظ على علاقة «دائمة»، مع من يكون في البيت الأبيض مسألة مهمة، والآن ليس الوقت الملائم كي نفقد الرؤية التي تفيد بأن الولايات المتحدة هي قوة لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة لأوروبا.

وفي العودة إلى أوروبا، فقد وضعت مسألة عدم الاستغناء في إطار مختلف. وقال دبلوماسي أوروبي لـ«سي إن إن»: «الولايات المتحدة شريك لا يمكن تجنبه، حتى لو كانت شريكاً مقلقاً»، وقال مسؤول أوروبي «من المفيد القيام ببعض الجهود الرمزية لتطوير العلاقات الاقتصادية والسيبرانية». وأضاف: «ويعتبر المجلس الاقتصادي والتجاري الأوروبي الأميركي منصة جيدة على سبيل المثال، ولكنه يركز بشدة على التقنيات حالياً، وكان بإمكانهم التواصل معنا في ما يتعلق بقانون خفض التضخم للوقوف على الكيفية التي يمكن أن يؤثر بها سلباً في أنظمتنا الاقتصادية».

الأبواب المغلقة

وخلف الأبواب المغلقة ليس هناك أي مواربة، فالمسؤولون الأوروبيون يفضلون فوز بايدن بفترة رئاسية ثانية على كل من ترامب والمرشح الجمهوري رون ديسانتوس، ولكن رئاسة بايدن لم تمهد المشهد للقيام بالمصالحة الكبيرة، وأوروبا ملتزمة على الغالب إيجاد طريقها الخاص بها في العالم.

ومن نواحٍ معينة، كان ذلك حتمياً وضرورياً، ولكن لا يمكن نكران أن ظلال رئاسة ترامب، واستمرار بايدن في سياسة تتطلع إلى الداخل وليس إلى الخارج، جعلت أوروبا أكثر تصميماً من أي وقت مضى على إيجاد مكانتها في العالم، ولا تكون تابعاً للغير. ويعني ذلك في الوقت الحاضر انفصالاً مستمراً عن أميركا في أكبر قضايا السياسة الخارجية غير أوكرانيا، والتي تتمثل في كيفية التعامل مع الصين.

لوك ماكجي خبير السياسة الأوروبية في «سي إن إن»


كان ترامب قائداً فوضوياً عمل على انتقاد حلفاء أميركا الأوروبيين باستمرار، وهدد بشن حرب تجارية على كل شيء، بدءاً بالجبنة ووصولاً إلى الطائرات.

تويتر