المؤرخ البريطاني ماكس هيستنغز:

الغرب يدفع في حرب أوكرانيا ثمن غطرسته ضد شعوب الجنوب

صورة

زار عسكري غربي إحدى الدول الإفريقية ذات الحكم الرشيد نسبياً، أخيراً، وسأل رئيسها عن سبب عدم دعمه للغرب في الأزمة الأوكرانية، فرد عليه قائلاً: «لا أرى أي اختلاف بين ما تفعله روسيا في أوكرانيا، وما فعله الغرب في العراق» عند غزوه عام 2003.

وفي تحليل نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء، قال المؤرخ العسكري والكاتب البريطاني ماكس هيستنغز، إنه «يمكن الرد على الرئيس الإفريقي بالحديث عن حُسن نوايا أميركا ورغبتها في تحرير الشعب في العراق، وليس استعباده كما تريد روسيا في أوكرانيا، لكنه كلام غير مقنع تماماً لأغلب شعوب العالم».

ويضيف هيستنغز: «إنه رغم موافقة 141 دولة عضو في الأمم المتحدة على قرار يدين الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن 85% من سكان العالم لا يؤيدون العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، والتي يتم انتهاكها والالتفاف عليها بصورة مذهلة».

لا فرق

والحقيقة أن شعوب الهند وجنوب إفريقيا والمكسيك، وغيرهم  كثيرون، ناهيك عن حلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الصينيين والإيرانيين والكوريين الشماليين، قد لا يحبون الروس، لكنهم لا يرون أي اختلاف أخلاقي بينهم وبين الأميركيين. فهذه الشعوب ترى أن الروس والأميركيين عدوانيون ومتعجرفون ولا يهتمون بأي شيء سوى مصالحهم. ولم تنس تلك الشعوب الحرب الأميركية المدمرة ضد فيتنام في سبعينات القرن الـ20.

ويروي هيستنغز قصة ذات دلالة، فيقول إنه عاد قبل قليل من رحلة سياحية إلى ماليزيا، حيث أقام في إحدى الفيلات. وكانوا قبل خروجهم من الفيلا يحرصون على إطفاء كل الأنوار كما يفعلون في بريطانيا، بسبب الخوف من ارتفاع فواتير الكهرباء، لكنه لاحظ أن عمال النظافة كانوا يعيدون إضاءة الأنوار. ولما سأل مدير المنتجع، عما إذا كانوا لا يعانون ارتفاع سعر الكهرباء، فقال له إن الأسعار انخفضت لأن ماليزيا لا تطبق العقوبات على روسيا، وبالتالي تشتري النفط والغاز من روسيا بأسعار منخفضة.

ويقول الدبلوماسي السنغافوري، كيشور محبوباني، الذي سبق أن تولى رئاسة مجلس الأمن الدولي، إن «معظم شعوب الكوكب يريد الحياة في عالم متعدد الأقطاب وليس عالماً تديره الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين»، مضيفاً أن «هذا هو السبب الذي جعل كثير من دول العالم لا تطبق العقوبات على روسيا، لأن (هزيمة روسيا) ليست في مصلحة عالم الجنوب. فالكثير من الدول في الجنوب التي مازالت تحمل ذكريات عصر الهيمنة الغربية، تدرك أن الغرب سيعود إلى هيمتنه وغطرسته بمجرد هزيمة روسيا».

ويرى هيستنغز الذي عمل محرراً للشؤون الخارجية في هيئة الإذاعة البريطانية، أن هذه الصورة محبطة للغربيين الذين يرون أنهم طيبون، ويدعمون في أوكرانيا دولة ضحية تعاني حرباً غير مبررة، حيث يؤكد القادة الغربيون باستمرار أن هزيمة الروس وإعادتهم إلى حيث أتوا مهمة من أجل الشعوب المحبة للديمقراطية والحرية.

الغرور الأخلاقي

ويضيف أن «الغرور الأخلاقي رذيلة محبطة للثقافة الغربية، ولذلك يمكن أن تدير الدول الغربية  سياستها الخارجية بصورة أفضل إذا ما حاولت بجد فهم سبب عدم دعم الكثيرين لحملة الغرب من أجل حرية أوكرانيا».

 وأشار استطلاع للرأي أجراه «مركز يوجوف» إلى أن 65% من شعوب الدول الديمقراطية الأوروبية يرون روسيا دولة معادية، في حين يرى 51% من الهنود روسيا كدولة حليفة، مقابل 29% منهم يرونها «شريكاً ضرورياً»، و5% فقط يرونها معادية. وزادت واردات الهند من روسيا خلال العام الماضي بنسبة 400% سنوياً. ومازال الهنود يتذكرون كيف أدت العقوبات الأميركية ضد العراق وإيران إلى ارتفاع أسعار الطاقة بشدة في شبه القارة الهندية. وقال سفير سابق للهند لدى روسيا: «لا نقبل التصور الغربي للصراع في أوكرانيا».

وفي الخريف الماضي، أجرى معهد بينيت للسياسة العامة في جامعة كامبريدج استطلاعاً للرأي حول الاتجاهات العالمية تجاه الديكتاتوريات الكبرى. ومنذ حرب أوكرانيا أظهر المسح تحولاً كبيراً في اتجاهات الرأي العام في الديمقراطيات الليبرالية التي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليار نسمة، نحو روسيا والصين، حيث قال 75% منهم إنهم يحملون رؤية سلبية تجاه الصين، وقال 87% منهم إنهم يحملون رؤية سلبية تجاه روسيا. وتدهورت  رؤية الشعوب الغربية لروسيا في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين إلى مستويات لم يتم تسجيلها منذ منتصف خمسينات القرن الـ20 في ذروة الحرب الباردة.

في المقابل، تحسنت رؤية شعوب الدول غير الديمقراطية التي تضم 6.3 مليارات نسمة لكل من الصين بنسبة 70% وروسيا بنسبة 66%. وقبل 10 سنوات فقط كان 18% فقط من الفيتناميين ينظرون نظرة إيجابية إلى الصين، ولكن اليوم النسبة وصلت لأكثر من 36% من الفيتناميين.

الحقيقة أن كثيراً من شعوب العالم لا تتمنى الحياة في روسيا ولا الصين، لكنها أيضاً لا تتمنى لدولها الخضوع للهيمنة الأميركية، والتي يعتبرها الكثير من الشعوب قمعية مثل الهيمنة الروسية أو الصينية.

ورغم ذلك، يمكن للغرب الشعور بقدر من الارتياح، لأنه في حين تحمل أقلية كبيرة في العديد من مناطق العالم مشاعر معادية له، فإن الأغلبية في تلك المناطق مازالت مؤيدة له. ومازالت الولايات المتحدة هي الخيار الأول لعدد كبير من الناس الذين يحلمون بالحياة في دولة غير دولهم.

كما أن هناك سبباً آخر للاحتفال وهو نجاح التحالف الديمقراطي الغربي الداعم لأوكرانيا في المضي قدماً خلال العام الماضي، دون ظهور أي مؤشر على تفككه حتى الآن.

وأخيراً، يقول هيستنغز إن «الغرب في حاجة إلى الاعتراف برفض الكثير من دول العالم الانضمام إلى معسكره، ففي العالم الجديد الذي يعتقد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، أنه يتشكل، ستضع الدول الديكتاتورية نفسها في مواجهة الدول الديمقراطية». في المقابل، سيكون هناك الكثير من الدول التي تتمسك بالبقاء على الحياد، سواء من أجل مصالحها الذاتية، أو بسبب شكوكها في دوافع المعسكرين.


• شعوب الهند وجنوب إفريقيا والمكسيك وغيرهم كثيرون، ناهيك عن حلفاء بوتين من الصينيين والإيرانيين والكوريين الشماليين، قد لا يحبون الروس، لكنهم لا يرون أي اختلاف أخلاقي بينهم وبين الأميركيين.

• رغم موافقة 141 دولة عضو في الأمم المتحدة على قرار يدين الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن 85% من سكان العالم لا يؤيدون العقوبات الغربية المفروضة على موسكو والتي يتم انتهاكها.

• معظم شعوب الكوكب يريد الحياة في عالم متعدد الأقطاب وليس عالماً تديره الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين، ما جعل الكثير من دول العالم لا تطبق العقوبات على موسكو، لأن «هزيمة روسيا» ليست في مصلحة عالم الجنوب.

تويتر