باتت تتحمّل تكاليف إضافية

انعكاسات قوة الدولار الأميركي على الاقتصادات العالمية

صورة

شهد الدولار الأميركي ارتفاعاً قياسياً أمام العُملات الرئيسة عقب الحرب الأوكرانية، ووصل مؤشر الدولار، الذي يعتبر متوسطاً مرجحاً لقيمته مقابل ست عُملات عالمية رئيسة، إلى أعلى قيمة له منذ عام 2002. ويأتي ذلك في ظل الاضطرابات التي يشهدها الاقتصاد العالمي، نتيجة لتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، التي عزّزت من ارتفاع الطلب على الدولار باعتباره ملاذاً آمناً، فضلاً عن تشديد السياسة النقدية من قِبل الاحتياطي الفيدرالي.

ومن المتوقع أن يسبب ارتفاع الدولار في خلق بعض التداعيات السلبية على الاقتصادات العالمية.

أسباب الارتفاع

ثمة عوامل أدت إلى ارتفاع قيمة الدولار الأميركي على حساب العُملات الرئيسة الأخرى، ويتمثل أهمها في التالي:

1- ملاذ آمن

ينظر إلى الدولار ملاذاً آمناً للاستثمار أو الادخار في أوقات الاضطرابات الاقتصادية. وحالياً، ومع تزايد احتمال تعرض كثير من الاقتصادات المتقدمة للركود، ارتفعت معدلات الطلب على الدولار، على نحو عزّز من قيمته. وأشار بنك «ستاندرد تشارترد» إلى أن نحو 45% من قوة الدولار الأخيرة مستمدة من وضعه ملاذاً آمناً.

2- تشديد السياسة النقدية

يمكن تفسير ارتفاع الدولار هذا العام، من خلال سياسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي النقدية المتشددة، وفقاً لـ«بنك أوف أميركا». فخلال يوليو 2022 رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بـ75 نقطة أساس، للمرة الثانية على التوالي، ويتوقع بنك «غولدمان ساكس» استمرار تشديد الفيدرالي السياسة النقدية لفترة أطول.

3- ارتفاع عائدات سندات الخزانة الأميركية

ارتفعت عائدات السندات الأميركية، نتيجة رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، ما تواكب معه جذب مزيد من المستثمرين الباحثين عن الأصول الأميركية، ومن ثم ارتفاع الطلب على الدولار.

4- وضع أفضل للاقتصاد الأميركي

تبدو أوضاع الاقتصاد الأميركي أفضل حالاً من نظرائه، خصوصاً أوروبا، حيث تواجه الأخيرة أزمة طاقة متفاقمة مع سعيها إلى خفض اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، ما ضاعف من الضغوط التضخمية الواقعة عليها، وتستعد دول أوروبية لمواجهة انكماش حاد.

الدولار أمام العُملات العالمية

حقق الدولار ارتفاعاً قوياً أمام معظم العُملات الرئيسة في العالم، بينما تباين أداؤه أمام عُملات بعض الأسواق الناشئة والنامية، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:

1- تعادل الدولار واليورو

خلال يوليو الماضي وصل الدولار واليورو إلى مستوى التعادل لأول مرة منذ 20 عاماً، ويتوقع بنك «مورغان ستانلي» أن يهبط اليورو إلى 0.97 دولار خلال الربع الجاري من العام، بينما تتوقع شركة «نومورا» أن يبلغ اليورو 0.95 دولار.

ويأتي ذلك في ظل تأثر الاقتصادات الأوروبية بتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية بدرجة أكبر مقارنة بالاقتصاد الأميركي، إلى جانب المخاوف المتزايدة من دخول الاقتصادات الأوروبية في حالة ركود، إذ يرى بنك «غولدمان ساكس» أن احتمالات حدوث ركود في أوروبا تبلغ 60%، بينما تبلغ 30% في الولايات المتحدة.

2- تراجع قوي للين أمام الدولار

ارتفع الدولار إلى أعلى مستوى له منذ 24 عاماً مقابل الين الياباني في يوليو الماضي، مع استمرار السياسة النقدية المتساهلة في اليابان، ومواصلة التيسير الكمي للحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة على ديونها الحكومية.

3- تباين أداء الدولار أمام عُملات الأسواق الناشئة والنامية

هبطت قيمة كثير من عُملات الأسواق الناشئة أمام الدولار عقب الحرب الأوكرانية، على غرار الروبية الهندية، التي بلغت مستويات قياسية من الانخفاض اخيراً، إلا أن البعض الآخر لايزال محافظاً على أدائه الجيد أمام الدولار، لاسيما عُملات الدول المصدرة للطاقة والغذاء، منها: أنغولا، والبرازيل.

أما الروبل الروسي، فيعتبر من أفضل العُملات أداءً مقابل الدولار هذا العام، وذلك نتيجة وفرة النقد الأجنبي مع ارتفاع أسعار النفط والغاز، فضلاً عن القيود المفروضة على حركة رأس المال في السوق المحلية.

انعكاسات عالمية

يفرض ارتفاع الدولار تحديات وفرص بالنسبة للاقتصادات العالمية، وذلك على النحو التالي:

1- الاقتصاد الأميركي

من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الدولار إلى خفض التضخم، غير أنه سيترتب عليه تراجع ربحية الشركات، وذلك على النحو التالي:

‌(أ) خفض التضخم

يؤدي الدولار القوي إلى خفض معدل التضخم بالسوق الأميركية، وإن كان بمعدلات ضئيلة، حيث يساعد الدولار القوي في خفض تكاليف الواردات. وتشير تقديرات بعض المحللين إلى أن قوة الدولار يمكن أن تقلص ما يراوح بين 0.2 و0.3% من التضخم الإجمالي.

‌(ب) تراجع ربحية الشركات

تجني كثير من الشركات الأميركية معظم إيراداتها ومبيعاتها من الأسواق الخارجية، وتشير بعض التقديرات إلى أن ارتفاع الدولار سيقلص 5% من نمو أرباح الشركات المتضمنة في مؤشر «ستاندرد آند بورز» 500 هذا العام، أو بما يعادل 100 مليار دولار.

2- الاقتصادات الأوروبية

يتوقع أن يؤدي ارتفاع الدولار إلى تأثيرات متباينة على الاقتصادات الأوروبية، منها:

‌(أ) ارتفاع كلفة الواردات

سترتفع تكاليف الاستيراد في أوروبا وهي غالباً مقومة بالدولار، ما يزيد العبء على الأسر والشركات الأوروبية. وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تعتبر من الشركاء التجاريين الرئيسين لدول الاتحاد الأوروبي.

‌(ب) استقبال السائحين الأميركيين

يجعل الدولار القوي الرحلات السياحية إلى الخارج أقل كلفة بالنسبة للأميركيين، ومن ثم قد تشهد بعض الدول الأوروبية تدفق مزيد من السائحين الأميركيين إليها، بيد أن بعض التقديرات تشير إلى أن ارتفاع أسعار النفط وارتفاع معدلات التضخم في الدول الأوروبية، قد يحدّ من الوفورات التي سيحققها السائحون الأميركيون من ارتفاع الدولار.

‌(ج) رفع الفائدة على اليورو

سيضطر المركزي الأوروبي إلى دعم اليورو وخفض كلفة الواردات، وذلك عبر رفع وتيرة سعر الفائدة في الأشهر المقبلة، بيد أن ذلك سيقلل من فرص الائتمان ويضعف النمو الاقتصادي.

3- الأسواق الناشئة والنامية

يتوقع أن يؤدي ارتفاع الدولار إلى بعض التداعيات السلبية على الأسواق الناشئة، منها التالي:

‌(أ) ارتفاع تكاليف الاستيراد

بالأساس، يتم تسعير السلع، مثل النفط والقمح بالدولار، هذا ما يعني بالتبعية ارتفاع تكاليف واردات تلك السلع، خصوصاً بالنسبة للدول منخفضة الدخل المستوردة للطاقة والغذاء، ما يؤدي إلى تزايد عجز موازينها التجارية.

‌(ب) مزيد من التضخم

يؤدي ارتفاع أسعار الواردات إلى تغذية الضغوط التضخمية في تلك الدول. ويتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع معدل التضخم في الأسواق الناشئة والنامية ليصل إلى 9.5% عام 2022، و7.3% عام 2023.

‌(ج) تفاقم مشكلة الديون

معظم الاقتصادات الناشئة والنامية لديها جزء كبير من ديونها الخارجية مقوّم بالدولار. وبالتالي، يعني قوة الدولار ارتفاع أقساط الديون، فضلاً عن زيادة كلفة خدمته. وتقدر وكالة «فيتش» أن متوسط الدين الحكومي بالعُملات الأجنبية في الأسواق الناشئة ارتفع إلى 31% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية عام 2021، مقارنة بـ18% عام 2013، وهو مؤشر سيتفاقم في ظل تبعات الحرب الأوكرانية.

وعلى الرغم من ذلك، تتمتع بعض الاقتصادات النامية والناشئة - خصوصاً تلك المصدرة للطاقة، والسلع الزراعية - بمستويات كافية من الاحتياطات من العُملات الأجنبية، والمواد الأولية، لتغطية خدمات الديون في المستقبل القريب.

‌(د) خروج رؤوس الأموال الأجنبية

تزايد خروج الأموال الساخنة من أسواق الأسهم والسندات بالاقتصادات الناشئة مع قوة الدولار. وقد بلغ إجمالي التدفقات الخارجة من الأسواق الناشئة نحو 9.8 مليارات دولار في يوليو 2022، وهو تخارج قياسي للشهر الخامس على التوالي.

ويأتي ذلك في ضوء رغبة المستثمرين في الاستفادة من العائدات المرتفعة لسندات الخزانة الأميركية، على حساب الأصول الأخرى في الأسواق الناشئة والنامية، على الرغم من قيام بعضها مثل: البرازيل وتشيلي وبولندا، برفع أسعار الفائدة قبل دورة التشديد النقدي التي بدأها الاحتياطي الفيدرالي.

(هـ) سحب الاحتياطات لدعم العُملة

استنزفت الاقتصادات النامية ما يقدر بنحو 379 مليار دولار من الاحتياطات، في محاولة لدعم عُملاتها مقابل الدولار، بيد أن هذه الجهود لم تسفر سوى عن استقرار محدود في أسواق الصرف الأجنبية لتلك الدول.

هل يستمر الدولار في الارتفاع؟

يبدو من الصعب التكهن بالاتجاه المستقبلي للدولار الأميركي، ولكن معظم التقديرات تشير إلى استمرار ارتفاع الدولار، لاسيما في الأمد القصير، في ظل الآتي:

1- أصل آمن

سيظل الدولار ملاذاً آمناً للأفراد والمستثمرين، خصوصاً في ظل استمرار الصراع الروسي - الأوكراني، وارتفاع درجة عدم اليقين بالنسبة للمشهد الاقتصادي العالمي.

2- وتيرة التشديد النقدي

من المتوقع أن يستمر الفيدرالي الأميركي في رفع الأسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، ما سيحافظ على قوة الدولار، على الأقل، حتى عام 2023. ومن المرجح أن تصل أسعار الفائدة الأميركية إلى 3.4% عام 2022، و3.8% عام 2023.

تغذية التوترات

يمكن القول إن الدولار الأميركي قد يكون في طريقه نحو الارتفاع حتى العام المقبل، ويغذي ذلك استمرار التوترات الجيوسياسية مع روسيا، والآفاق القاتمة للاقتصاد العالمي، ما سيدفع المستثمرين نحو الاحتفاظ بالعُملة الأميركية، على حساب العُملات والأصول الأخرى.

• تبدو أوضاع الاقتصاد الأميركي أفضل حالاً من نظرائه، خصوصاً أوروبا، حيث تواجه الأخيرة أزمة طاقة متفاقمة مع سعيها إلى خفض اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، ما ضاعف من الضغوط التضخمية الواقعة عليها، وتستعد دول أوروبية لمواجهة انكماش حاد.

• تزايد خروج الأموال الساخنة من أسواق الأسهم والسندات بالاقتصادات الناشئة مع قوة الدولار. وقد بلغ إجمالي التدفقات الخارجة من الأسواق الناشئة نحو 9.8 مليارات دولار في يوليو 2022، وهو تخارج قياسي للشهر الخامس على التوالي.

تويتر