أغانٍ تحاكي الحياة الفلسطينية مطلع القرن الماضي

معمّرات فلسطينيات ينقلن تراث ما قبل النكبة إلى الأحفاد

صورة

«يا أمي يا أمي عبيلي» املئي لي، و«المخداتي» الوسادة، و«طلعت من الدار وما ودعت خياتي» شقيقاتي، هي عبارات مشتقة من أهازيج تراثية كانت ترددها الحاجة الثمانينية أم مصطفى دوله مع عائلتها في سهرات ليالي الزفاف، داخل بيوت مدينة يافا الساحلية المهجرة، وبين أزقتها العتيقة، لتبقى هذه الكلمات والمئات من شاكلتها محفورة في ذاكرة المعمرة الفلسطينية، ولم تغيبها سنوات التهجير الممتدة على مدار أعوام طويلة، منذ مطلع القرن الماضي.

اليوم، وبعد مضي 73 عاماً على نكبة التهجير والتشريد، تحولت حكايات ليلة العمر وجلسات السهر، إلى أغانٍ تردد كلماتها الجدات الفلسطينيات بصحبة الأحفاد، على وقع الألحان الموسيقية التراثية.

فالمُعمرة دوله، البالغة من العمر 88 عاماً، شاركت خلال العام الماضي في إنتاج وتصوير كليب غنائي بعنوان «زينة البلدان»، من غناء الطفل الفلسطيني جاسر الحمامي، كما أسهمت في إنتاج أعمال فنية مصورة عن عادات وتقاليد التراث الفلسطيني قبل النكبة، داخل مطعم «بيت ستي» وسط مدينة غزة، الذي كان عبارة عن منزل أثري قديم، وأصبح مطعماً يزخر بذاكرة التاريخ والحضارة.

وتقول الحاجة (أم مصطفى) لـ«الإمارات اليوم»: «منذ أن كنت في السن الـ14 كنت أشارك والدتي وشقيقاتي كل أفراح ومناسبات سكان حي العجمي في مدينة يافا، ونقضي ساعات الليل نردد أجمل الكلمات والأغاني، كما كانت جميع نساء الحي يجتمعن بشكل دائم في أحد المنازل لنردّد كلمات وأغاني السمر والسهر».

وتضيف: «بقيت هذه الكلمات محفورة في ذاكرتي ولن أنساها أبداً، وأرددها بشكل مستمر في جميع حفلات الخطوبة والزفاف لجميع أفراد عائلتنا، وهذا يعد مصدر سعادة بالنسبة لي، حيث إن الأغاني التي كانت ترددها والدتي يحفظها اليوم أحفادي».

ألبوم غنائي تراثي

وفي حالة مشابهة وعلى الخطى ذاتها، وفي محاولة منهن للحفاظ على الإرث الحضاري الفلسطيني من الاندثار، أسهمت النساء الفلسطينيات المعمرات، اللواتي هُجّرن من أراضيهن في نكبة عام 1948، في توثيق الحياة الفلسطينية على مر الأزمنة والعصور، من خلال ألبوم غنائي تراثي أُطلق حديثاً من مدينة دير البلح في قطاع غزة.

ويحمل الألبوم الغنائي عنوان «دابا يا قلبي دابا»، وهو مطلع أغنية تراثية فلسطينية، ويضم إلى جانبها سبع أغنيات تراثية، منها، «ما بريدو»، و«نهورة»، و«صف البراري»، وجميعها تجسد تراث الشعب اللاجئ في وطنه، وعاداته وتقاليده، وتحاكي روايات الحياة الفلسطينية القديمة مطلع القرن الماضي.

وكانت تردد أغنية «دابا يا قلبي» قديماً في ليالي حنة أم العريس، حيث تجتمع النسوة من كل حدب وصوت ليرددن كلماتها في أجواء تراثية بحتة.

أما أغنية «صف البراري»، فتشتهر بها مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، مسقط رأس الألبوم الغنائي التراثي، وهي إحدى الأغنيات التي تُردّد في سهرة ليلة حنة العروس، ويتم فيها الاحتفاء بالعروس، وتُزيّن كفاها بالحناء بحضور النساء من الأهل والأقارب، وفيها تصطف النساء في صفين متقابلين مناصفة، وتتشابك الأيدي على الأكتاف، ويتبادلون الأدوار بغناء الأبيات تتابعاً، بحيث تقوم النساء في الصف الثاني المقابل بالرد وبترديد الأبيات، ويقومن بأدائها طوال الليل حتى الفجر، لكثرة الأبيات المغناة، ويتخلل أداءها الضحك وطاقة الفرح الكبيرة.

جهود حماية التراث

وأُنتج ألبوم «دابا يا قلبي» الغنائي التراثي من ذاكرة المعمرات، الذي أشرف على إنتاجه مجموعة شبابية تحتضنها «جمعية نوى للثقافة والتراث»، في مدينة دير البلح، بتنسيق مع مؤسسات محلية فلسطينية، وأخرى أوروبية.

وعملت «جمعية نوى» على مدار ثلاثة أعوام متتالية، من أجل جمع وتوثيق كلمات الأغاني بأسلوب شفاهي، وتجميعها من كبار النساء المعمرات، وذلك في خطوة منها لحماية تراث الأجداد من الاندثار، وذلك بحسب مديرة جمعية نوى للثقافة والفنون، ريم أبوجبر.

وتوضح أبوجبر أن الألبوم الغنائي هو فلكلوري بشكل مطلق، إذ يقدم مختارات من أغاني الأفراح الفلسطينية القديمة، خصوصاً ما قبل النكبة، التي تجسد تراث وعادات وتقاليد قطاع غزة بشكل عام، ومدينة دير البلح على وجه الخصوص، بما يحمل إرثها التاريخي الغني من تنوع ثقافي ومجتمعي، تأثر بمحيطه الحضاري والجغرافي على مر الزمن.

وتشرح مديرة «جمعية نوى» آلية إنتاج الألبوم الغنائي التراثي، حيث شكّلت الجمعية فريقاً شبابياً، ضم ثمانية شباب وفتيات، كانت مهمتهم تتبع التاريخ الشفاهي والتراثي للنساء المُعمرات في قطاع غزة، من أجل جمع وتوثيق كلمات الأغاني التراثية.

وتمضي أبوجبر بالقول: «التقى الفريق الشبابي العشرات من نساء الجيل الأول، اللواتي وثقن بذاكرتهن عادات وتقاليد شعبنا الفلسطيني في المناسبات والأفراح، رغم تقدمهن في العمر، وتم تسجيل كل هذه كلمات الأغاني التي نقلت مباشرة عن لسان المُعمرات الفلسطينيات».

وتضيف أن «مجموعة كبيرة من كلمات الأغاني التراثية التي جمعها الفريق الشبابي من ذاكرة المعمرات، تطلبت إجراء أبحاث عديدة، من أجل الوصول إلى جذورها ومعانيها، ومن ثم جمعها وترتيب سياقها، خصوصاً أن الكثير منها يعود إلى فترة العهد العثماني في فلسطين».

ويعد ألبوم «دابا يا قلبي»، بحسب أبوجبر، العمل الفني الأول على صعيد التراث الفلسطيني القديم، وحفظ الأغاني المرتبطة بعقود ماضية، لاسيما أن هذه الأغاني أنتجت أيضاً على شكل فيديوهات مصورة، لتلقى انتشاراً أوسع بين الأجيال المتلاحقة، من أجل حماية هذا التراث التاريخي من الاندثار.

مجموعة كبيرة من كلمات الأغاني التراثية التي جمعها الفريق الشبابي من ذاكرة المعمرات، تطلبت إجراء أبحاث عديدة، من أجل الوصول إلى جذورها ومعانيها، ومن ثم جمعها وترتيب سياقها، خصوصاً أن الكثير منها يعود إلى فترة العهد العثماني في فلسطين.

• المُعمرة دوله، البالغة من العمر 88 عاماً، شاركت خلال العام الماضي في إنتاج وتصوير كليب غنائي بعنوان «زينة البلدان»، من غناء الطفل الفلسطيني جاسر الحمامي، كما أسهمت في إنتاج أعمال فنية مصورة عن عادات وتقاليد التراث الفلسطيني قبل النكبة.

تويتر