واشنطن لن تستطيع التنصل من مسؤولياتها بعد الخروج وإلا عاد الإرهاب مجدداً

تأثير الانسحاب الأميركي من أفغانستان على منافسة الصين

صورة

تستمر الولايات المتحدة -في الوقت الراهن- في سحب قواتها العسكرية من أفغانستان لتتجاوز نسبة انسحاب القوات أكثر من 50%، وذلك بعد أن أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، منذ ما يقرب من شهرين، اعتزامه إنهاء تورط القوات الأميركية في كابول ضمن إطار تحقيق هدفه بإنهاء انغماس واشنطن في «الحروب الأبدية»، ومن منطلق أن واشنطن حققت هدفها في أفغانستان والمتمثل في الحد من التهديدات التي تنبثق من الدولة الأفغانية، وتهديدها المصالح الأميركية ومصالح الحلفاء، ولكي تركز على التنافس مع الصين باعتبارها التحدي الجيوسياسي الأبرز الذي يواجهها في القرن الحالي.

وفي هذا الشأن، نشر موقع مجلة «ذا أتلانتيك» مقالاً بعنوان «كيف سيؤثر الانسحاب من أفغانستان على علاقة الولايات المتحدة مع الصين»، بتاريخ 25 يونيو الماضي، يتناول فيه كل من ريتشارد فونتين وفانس سيرشوك الحجج التي يدافع بها داعمو الانسحاب الأميركي من أفغانستان باعتبارها ستعمل على تقوية التنافس مع الصين، ثم دحض وتفنيد هذه الحجج باعتبارها ستعمل على إضافة المزيد من الصعوبات على السياسة الأميركية تجاه أفغانستان من الناحية العسكرية والدبلوماسية والمالية، ومن ثم لن تتمكن من تعزيز منافستها مع بكين في إطار منافسة القوى العظمى.

إعادة توجيه

أعلن بايدن عن أن هناك حاجة لإعادة توجيه اهتمام وقدرات الولايات المتحدة إلى أولويات السياسة الخارجية الأميركية الأكثر إلحاحاً، والتي يأتي على رأسها المنافسة «الشديدة» مع الصين. ومن ثم كان من البديهي أن يتخذ بايدن قراراً منذ ما يقرب من شهرين لانسحاب القوات الأميركية بشكل نهائي من أفغانستان للحد من تقيد الولايات المتحدة في حرب يبدو أن لا نهاية لها، لكي يتفرغ لمواجهة التحديات المنبثقة من الصين، والتي تنافسها على المستويات كافة؛ العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية.

ومن الجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الإدارة الأميركية قراراً بتقليص التواجد في منطقة الشرق الأوسط، لصالح التركيز على منطقة المحيط الهندي الهادئ، إذ برر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الانسحاب من العراق، بالتمكن من تنفيذ استراتيجية التحول نحو آسيا.

ووفقاً للمقال، فإن الأسباب التي تروج لها الإدارة الأميركية حول الانسحاب العسكري من أفغانستان، والتي تتمثل في تعزيز القدرة التنافسية مع الصين، ليست مقنعة. حيث إن ملامح استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفغانستان لفترة ما بعد الانسحاب تثير الشكوك والغموض بشأن قدرة واشنطن على التنافس الفعال مع بكين، حيث يبدو أنها ستقوض من القدرة الاستراتيجية للولايات المتحدة في مواجهة الحزب الشيوعي الصيني.

وفي ظل انقسام الآراء في المجتمع الأميركي ما بين مؤيد ومعارض لقرار سحب القوات الأميركية من أفغانستان، قدم مؤيدو القرار ثلاث حجج ستتمكن بموجبها الإدارة الأميركية من تعزيز تنافسها مع بكين. إذ سيتيح الانسحاب الفرصة لإعادة نشر المعدات العسكرية الأميركية الموجودة بأفغانستان في منطقة المحيط الهندي الهادئ، كما أنه من المتوقع أن يتيح الفرصة للدبلوماسيين والبيروقراطيين الأميركيين لتكريس المزيد من الاهتمام والجهد لبكين بعيداً عن «المستنقع الأفغاني»، فضلاً عن أن الانسحاب سيمكن الدولة من تمويل المبادرات التي تُعزز مكانة واشنطن لتمكنها من التنافس مع الصين عبر توفير الأموال التي كانت ستستمر الدولة في إنفاقها لو لم تنسحب من أفغانستان، ومن ثم تخصيص مليارات من الدولارات للمنافسة مع بكين.

تفنيد الحجج

أورد المقال أن الولايات المتحدة ليست في حاجة إلى الأصول والمعدات والقوات العسكرية التي تمتلكها في أفغانستان لكي تلعب من خلالها دوراً فعّالاً ضد الصين. إذ إن الوجود الأميركي بكابول قد تقلص بالفعل قبل تنصيب بايدن، ومن ثمّ فإن ميزان القوى العالمي لن يتغير بمجرد إعادة انتشار آلاف من الجنود الأميركيين المتمركزين في الدولة الأفغانية. ومن ثم ينبغي على وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في حال رغبت في «تعزيز التفوق العسكري الأميركي المتآكل» في منطقة المحيط الهندي الهادئ أن يكون هذا الأمر على رأس أولوياتها، وألا تعتمد بشكل رئيس على المعدات والقوات الأميركية التي تسحبها من كابول، إذ إنه يمثل جزءاً صغيراً في ظل التدابير اللازمة.

وعلاوة على ما سبق، لا تهدف الإدارة الأميركية إلى وقف كل عمليات القتال في أفغانستان، وإنما تسعى إلى إطلاقها من الدول المجاورة، في ظل تعهدها باستمرار تقديم الدعم للشعب والحكومة الأفغانية. كما أن واشنطن لا تستطيع أن تتوقف عن مواجهة الإرهاب في أفغانستان، حيث إن المخاطر المنبثقة عن التنظيمات الإرهابية لم تنتهِ بعد. حيث أفاد تقرير غير سري أصدرته وزارة الخزانة الأميركية خلال العام الحالي، بأن تنظيم «القاعدة» يستمر في التعاون مع حركة «طالبان»، فضلاً عن كونه يستحوذ على نفوذ كبير داخل أفغانستان. وأشار تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة، إلى تمركز عدد كبير من أعضاء تنظيم «القاعدة» على الحدود بين أفغانستان وباكستان، الأمر الذي يهدد بإعادة تنظيم جهودهم لتشكيل شبكة متطرفة في هذه المنطقة.

وأورد المقال جملة من الأسباب التي تدل على أن الانسحاب من أفغانستان لن يُفسح مجالاً أوسع للدبلوماسيين والبيروقراطيين للتفرغ للصين، حيث تشهد الإدارة الأميركية حالياً سلسلة من الأزمات التي تتطلب جهداً دبلوماسياً كبيراً في محاولة لحلها.

ومن بين هذه الأزمات نظر المسؤولين الأميركيين في تأشيرات الهجرة الخاصة بحلفاء الولايات المتحدة من الأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأميركية، ويخشون من التعرض لانتقام حركة «طالبان» بعد إتمام الانسحاب، فضلاً عن المشاورات الجارية مع الحكومة التركية للقيام بدور في تأمين مطار كابول الدولي عقب الانسحاب، بالإضافة إلى عدم التمكن من الاتفاق مع دول آسيا الوسطى بإنشاء قاعدة عسكرية أميركية لكي تكون على مقربة من أفغانستان، بالتزامن مع المشاورات الجارية حالياً في البنتاغون لتحديد أفضل السبل التي يُمكن أن تستمر بموجبها في تقديم الدعم العسكري للقوات الأفغانية، ولا سيما للقوات الجوية، مع عدم بقاء أي قوات أميركية على أراضي الدولة.

ولن تستطيع الولايات المتحدة كذلك تحقيق مدخرات من سحب القوات الأميركية، حيث يبدو الترويج لهذا الهدف وهمياً للغاية، ولا سيما أن ما يبدو هو أن الإدارة الأميركية ستستمر في إنفاق المزيد من الأموال. حيث تعهد الرئيس الأميركي باستمرار تقديم دعم مالي يُقدر بمليارات من الدولارات للجيش الأفغاني بشكل سنوي، وفي هذا الشأن اقترحت الإدارة زيادة الميزانية المخصصة لدعم الحكومة الأفغانية. كما أن القواعد العسكرية الأميركية والقوات الأميركية التي ستتمركز في أي دولة مجاورة، فضلاً عن الطائرات الأميركية التي ستقطع مسافات هائلة وصولاً لأفغانستان، ستطلب إنفاق العديد من الأموال.

اقتراب أميركي جديد

تعهدت الإدارة الأميركية لكي تتمكن واشنطن من مواجهة التهديدات الإرهابية في أفغانستان عقب إتمام الانسحاب بتبني استراتيجية «ما وراء الأفق» لمواجهة الإرهاب. وترتكز هذه الاستراتيجية بشكل رئيس على مواجهة التنظيمات الإرهابية داخل الأراضي الأفغانية عبر شن العمليات الجوية من الدول المجاورة لها. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الاستراتيجية ستتطلب من وزارة الدفاع الأميركية توفير المزيد من الطائرات وتخصيصها لمكافحة الإرهاب في أفغانستان، حيث إن مكافحة الإرهاب تتطلب تواجداً مستمراً للطائرات للكشف عن الأهداف ومراقبتها، وهو ما لن تتمكن الطائرات الأميركية من القيام به، حيث ستستهلك الطائرات الكثير من الوقود مما يقلل من الفرص المتاحة للتحليق فوق أفغانستان. ومن ثم تحتاج القوات الجوية الأميركية لمزيد من الدعم، وهو ما يمكن أن يحدث من خلال وضع حاملة للطائرات بشكل دائم في المياه الباكستانية.

ومن هنا يثار العديد من التكهنات بشأن تواجد حاملة الطائرات الأميركية رونالد ريغان في بحر الصين الجنوبي لكي تتولى دعم المهام الجوية الأميركية في فترة ما بعد الانسحاب. وبناء على ما سبق، تظهر المشكلة الفعلية والتي تتمثل في مخاطرة إدارة بايدن بإعادة «توزيع عبء مهمة مكافحة الإرهاب» بأفغانستان في ظل الحاجة للاعتماد على حاملات الطائرات والقوات الجوية. كما أن انسحاب القوات البرية من أفغانستان لن توجهها الولايات المتحدة للتنافس مع الصين لأنها ليست مطلوبة في حالة المنافسة معها.

وسيُفضي الانسحاب الأميركي كذلك إلى تحمل واشنطن مسؤولية مكافحة الإرهاب في أفغانستان بشكل غير متناسب، إذ إن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة غير مؤهلين لتقديم الدعم الذي تحتاجه القوات الأميركية وفقاً لما تطلبه استراتيجية «ما وراء الأفق». فبالإضافة إلى أن اعتماد واشنطن على مواجهة الإرهاب في كابول بشكل كبير تَمَثّل في الوجود الأجنبي الواسع من الدول الأخرى، فإن اتجاه الإدارة للاعتماد على المراقبة الجوية والهجمات المتطورة بالطائرات يتطلب أصولاً لا يمتلكها معظم حلفائها.

أمل نادر

قد لا تُضطر الولايات المتحدة إلى الانغماس في كل المشكلات السابقة في فترة ما بعد الانسحاب في أحسن السيناريوهات، وذلك في حال تمكنت الحكومة الأفغانية وحركة «طالبان» من التوصل إلى اتفاق سلام لإنهاء الصراع. وربما لن تصبح الدولة ملاذاً للتنظيمات الإرهابية، حتى في حال تمكنت «طالبان» من السيطرة عليها، ومن ثم ستتولى دول أخرى القيام بهذه المهمة، وبالتالي ستتمكن واشنطن فعلياً من تحويل الموارد والطاقات للمنافسة مع بكين.

وعلى الرغم من ذلك، لطالما كشفت أحداث التاريخ في منطقة الشرق الأوسط أنه لا يمكن توقع حدوث الأفضل، حيث إن خطط الإدارات الأميركية السابقة لطالما انقلبت رأساً على عقب بسبب عدم الاستقرار والاضطرابات بالمنطقة. حيث إن إدارة (الرئيس السابق جورج) بوش كانت ترغب في توجيه الاهتمام للصعود الصيني، إلا أن أحداث الـ11 من سبتمبر أخذتها في اتجاه ثانٍ. كما قضى ظهور تنظيم «داعش» على رغبة إدارة أوباما بتحويل الانتباه إلى آسيا. ومن هذا المنطلق يُعد تطوير استراتيجية فعالة لمواجهة التهديدات الإرهابية من أفغانستان شرطاً مسبقاً لاتّباع سياسة خارجية أميركية قوية تجاه الصين.

تعزيز قدرة أميركا أولوية

ينبغي على إدارة الرئيس جو بايدن أن تنظر في كيفية تعزيز «قدرة الولايات المتحدة على التماسك الاستراتيجي»، وليس فقط النظر في كيفية تحقيق المصالح الخاصة بحماية أمن الأميركيين من الإرهاب وحماية الأفغان المهددين من حركة «طالبان». حيث سيكون من الصعب للغاية أن تركز واشنطن على المنافسة مع الحكومة الصينية ومواجهة التهديدات النابعة من مبادرة «الحزام والطريق» والأخرى التي تثيرها شركة هواوي في ظل السماح للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود بإعادة إحياء نفسها مرة أخرى، بما يرتبط بذلك من تفاقم أزمة اللاجئين. كما تُظهر استطلاعات الرأي العام أن هناك توافقاً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على أن مكافحة الإرهاب تُعد من أولويات السياسة الخارجية الأميركية إن لم تكن أهم من التنافس مع الصين.

ومن ثمّ فإن مواجهة التنظيمات الإرهابية لا تمثل تعارضاً مع تبني سياسة فعالة لمواجهة الصين، بل تعد شرطاً مسبقاً لها. ففي حال سمحت واشنطن للتنظيمات الإرهابية ولعدم الاستقرار أن يسود بأفغانستان مرة أخرى، فلن تتمكن من تحقيق طموحها المتعلق بمنافسة القوى العظمى مع بكين.

لن تستطيع الولايات المتحدة كذلك تحقيق مدخرات من سحب القوات الأميركية، حيث يبدو الترويج لهذا الهدف وهمياً للغاية، ولا سيما أن ما يبدو هو أن الإدارة الأميركية ستستمر في إنفاق المزيد من الأموال.

تعهدت الإدارة الأميركية لكي تتمكن واشنطن من مواجهة التهديدات الإرهابية في أفغانستان عقب إتمام الانسحاب بتبني استراتيجية «ما وراء الأفق» لمواجهة الإرهاب. وترتكز هذه الاستراتيجية على مواجهة التنظيمات الإرهابية داخل الأراضي الأفغانية.

• قد لا تُضطر الولايات المتحدة إلى الانغماس في كل المشكلات السابقة في فترة ما بعد الانسحاب في أحسن السيناريوهات، وذلك في حال تمكنت الحكومة الأفغانية وحركة «طالبان» من التوصل إلى اتفاق سلام لإنهاء الصراع.

تويتر