تستعد للرحيل بعد 16 عاماً حافلة بالإنجازات والإخفاقات

ميركل تُجبر نظراءها الذكور على التخلي عن غرورهــم.. وتتجنب السقوط في استـــفزازاتهم

صورة

لم تكن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تخطط للترشح لولاية رابعة في منصبها كمستشارة، ولكن السبب في تراجعها عن قرارها كان فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالبيت الأبيض في عام 2016، فبعد ثمانية أيام من انتهاء الانتخابات الأميركية بفوز ترامب، طار الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما إلى برلين ليودعها، وخلال العشاء في فندق أدلون الفاخر ناشدها الترشح لولاية أخرى لكي توحد الغرب والعالم في مواجهة سياسة ترامب المحتملة، وبعد أربعة أيام من ذلك أعلنت ميركل ترشحها.

ويعتقد كثيرون أن هذا الجانب هو الأكثر إشراقاً في ميراث ميركل، عندما تتقاعد هذا الخريف بعد قضائها 16 عاماً في منصبها، إذ لم يعمل أي زعيم آخر مثلها دون كلل أو ملل من أجل الحفاظ على السياسات المحلية والأوروبية والعالمية من الانهيار، ولكن يبدو أن هناك الكثير من الإضاءات والإخفاقات في مسيرتها.

حامية «النظام الدولي الليبرالي»

وصفت مؤسسات الفكر والرأي ميركل بأنها حامية «النظام الدولي الليبرالي». واختار بعض الصحافيين ألقاباً أكثر جاذبية، من بينها «المدافعة عن العالم الحر»، ويعتقدون أن ميركل أنقذت التعددية والتعاون الدولي من الهجمة العالمية المتمثلة في القومية والشوفينية.

وبصراحة، لم تؤيد ميركل هذه التسمية أبداً. المرة الوحيدة التي وافقت عليها ضمنياً كانت خلال إلقائها خطاب مراسم تخرج دعيت إليها في جامعة هارفارد عام 2019، حيث خاطبت جمهوراً كبيراً من النخب التقدمية في أميركا، وعلى الرغم من أنها لم تذكر ترامب بالاسم مطلقاً، فإنها حثت الخريجين على «هدم جدران الجهل وضيق الأفق»، و«اتخاذ إجراءات مشتركة لصالح عالم متعدد الأقطاب وشامل».

وعودة إلى ألمانيا، فقد ظل الألمان في حيرة من أمرهم. نادراً ما كانوا يستمعون لمستشارتهم وهي تتحدث إليهم بكل هذه البساطة والعاطفة. ميركل التي يعرفونها هي كيميائية تعيش في عالم الرياضيات وتجري داخل مجتمعات الفيروسات، يطلقون عليها لقب «موتي»، أو (الأم)، وتذكرهم بارتداء الأقنعة، أو الالتزام بالتشريعات.

كان الامر بالنسبة لهم كذلك في كثير من الأحيان.

ميركل داخل بلادها هي زعيمة فترة «ما بعد البطولة الألمانية»، بعد الصدمات التي عانتها ألمانيا في حربين عالميتين خسرتهما كلتيهما. قد يتطلع القادة الألمان الآخرون إلى مخاطبة مشاعر مواطنيهم، إلا أن ميركل تهدف إلى تخدير الألمان وجعلهم ينسون كل ما ظلوا يتجادلون بشأنه.

انقسام

وهناك انقسام في التصورات بشأن ميركل داخل ألمانيا وخارجها. وصف الصحافيون الأنجلو أميركيون على وجه الخصوص المستشارة بأنها العقل المدبر الذي يتمتع بسلطات هائلة، حيث تؤثر إرادتها الحديدية على بروكسل، وعلى مجموعة السبع أو مجموعة العشرين، وخلال اجتماعات الوزراء أو القادة في أي مكان كان ذلك.

وعلى النقيض من ذلك، يراها مواطنوها بشكل عام أنها تقود من الوسط، أي «تقود التغيير الاجتماعي». ونادراً ما تفصح عما كانت تفكر فيه إلا إذا اضطرت إلى ذلك. أخبرني أحد المخضرمين في السياسة الألمانية، وهو مثل ميركل ألماني شرقي سابق، أن مثل هذا السلوك شائع بين الأشخاص الذين نشأوا في أحضان الديكتاتورية الشيوعية، ويتخوفون من أن توقعهم آراؤهم لاحقاً في المشكلات.

لكن هناك تفسير آخر لسبب قيادة ميركل في كثير من الأحيان من الوسط - أو من الخلف، إذا كنت تفضل ذلك، حيث إنها في معظم القضايا، ليس لديها آراء قوية. كان أحد الانتقادات الرئيسة من داخل الاتحاد الديمقراطي المسيحي هو أنها ليست محافظة حقاً، وأنها مقتنعة برئاسة حزبها لـ«الديمقراطية الاجتماعية» السلحفائية.

زعيمة مثالية

هذه الخاصية جعلت من ميركل زعيمة مثالية في ترتيبات الحكم التي ظلت فيها، فخلال ثلاث فترات من ولاياتها الأربع، أو 12 عاماً من 16 عاماً في المستشارية، وجدت نفسها في تحالفات مع الديمقراطيين الاشتراكيين من يسار الوسط.

المكافئ الأميركي لذلك الترتيب هو إدارة يتقاسمها الجمهوريون والديمقراطيون، حيث لا يمكننا أن نتصور ذلك، ولكن بالنسبة لشخص لديه القدرة على تجميع الأضداد معاً، فإن التحدي مثير للاهتمام، ولكن لم يلاحظ أحد في الخارج كل هذه التناقضات؛ لذلك يجب أن يبدأ نقد إرث ميركل بالأشياء التي أهملتها - الإصلاحات - والأشياء التي لا تزعجها.

لم يحدث أي إصلاح اقتصادي حقيقي في ألمانيا خلال عهدها، وإنما حدث ذلك في عهد سلفها غيرهارد شرودر، ففي الوقت الذي كان يُطلق فيه على الاقتصاد الألماني «اقتصاد أوروبا المريض»، قام شرودر بتحرير سوق العمل، ما أدى إلى زيادة فرص العمل، لكنه أدى أيضاً إلى ظهور قطاع كبير للأجور المنخفضة. وبشكل منفصل، وافق أرباب العمل والنقابات في ألمانيا على إبقاء الأجور منخفضة لسنوات مقبلة، خصوصاً في قطاعات التصدير.

هذا الاقتصاد الذي أصلحه شرودر هو ما ورثته ميركل في عام 2005. وعلى الجانب الإيجابي، فقد أدى ذلك إلى ازدهار طويل الأجل في التوظيف أطلق عليه بعض الاقتصاديين «المعجزة الاقتصادية الثانية» (حدثت المعجزة الأولى في سنوات ما بعد الحرب مباشرة).

وعلى الجانب السلبي، فإن ضبط الأجور نفسه لم يجعل الصناعة الألمانية أكثر قدرة على المنافسة فحسب، بل أدى أيضاً إلى تشويه منطقة اليورو وحتى الاقتصاد العالمي، ولو احتفظت ألمانيا بالمارك الألماني، لكانت عملتها سترتفع. ولكن كجزء من اتحاد العملة، انخفض الاقتصاد الألماني فعلياً مقارنةً بالآخرين، ونتيجة لذلك أصبحت فوائض الحساب الجاري للبلد هي الأكبر في العالم لسنوات متتالية عدة. وكان الجميع من بروكسل إلى واشنطن غاضباً.

إدارة الاضطرابات

عندما يتعلق الأمر بإدارة الاضطرابات، فإن سجل ميركل حافل بالفشل في هذا الجانب، ابتداء من ولايتها الأولى، عندما بدأت الأزمات تتراكم. وانطلقت الأزمة المالية من الولايات المتحدة في عام 2008، وبعد ذلك بعام أغرقت تلك الأزمة منطقة اليورو، ما أجبر اليونان تقريباً على الخروج من الاتحاد النقدي، وتسببت في انقسامات مريرة بين شمال الاتحاد الأوروبي وجنوبه. وغزا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا في عام 2014، وبعد عام سار أكثر من مليون لاجئ من الشرق الأوسط عبر البلقان إلى ألمانيا، والآن ينتشر «كوفيد-19».

في العديد من هذه الأزمات لعبت ميركل دوراً كبيراً تضمن أشخاصاً أو مجموعات أو دولاً مختلفة. وخلال أزمة اليورو، على سبيل المثال، جسدت ميركل للأوروبيين الجنوبيين والألمان المحافظين جميع السياسات التي ظلوا يكرهونها.

وصورتها دول البحر المتوسط الأوروبية بأنها شخص يدعو إلى التقشف المدقع للأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إلى لقمة العيش. وشجبها المحافظون الألمان لخرقها القواعد الأوروبية لضخ اليورو الضريبي الألماني في بالوعة البحر الأبيض المتوسط التي لا نهاية لها.

ونلاحظ اليوم أن ميركل لم تحل أزمة اليورو فعلياً، وقد تتكرر هذه الأزمة، كما أنه لم يكتمل أي اتحاد مالي أو مصرفي في عهدها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى حق النقض الألماني. ويصب هذا الفشل سلباً في إرثها، لأنها في كثير من الأحيان تدير المواقف بدلاً من إصلاحها.

الوضع ثابت

لكن الوضع لم ينهر أبداً، لم يخرج أي بلد من الاتحاد النقدي، وتصالحت اليونان وإسبانيا والدول الأخرى المتضررة من الأزمة مع ميركل والشمال. علاوة على ذلك، وافق السياسيون الألمان اليوم على عمليات الإنقاذ التي حدثت بالفعل، ووافقوا حتى على دعم ميركل في أول إصدار سندات الاتحاد الأوروبي المشتركة في وقت لاحق من هذا العام، وهي مبادرة كانت محظورة في السابق ويعتبرها بعض الأوروبيين تشكل بذرة اتحاد مالي.

لذلك على المستويين الأوروبي والمحلي جمعت ميركل الأمور معاً، وما فكرت فيه طوال الوقت هو مقدار الألم أو الإهانة التي يمكن أن تتحملها كل مجموعة من مجموعات المصالح، وكيفية إيجاد توازن جديد للتنازلات. وفي سيناريو بديل من دون ميركل، ربما تكون منطقة اليورو قد انهارت الآن.

لقد كان أداؤها مشابهاً أيضاً في المواجهة المستمرة بين الغرب وبوتين. في المحادثات التي جرت في مينسك وأماكن أخرى، منعت ميركل - غالباً مع الرئيسين الفرنسي والأوكراني - عدواناً روسياً قد يكون الأسوأ على أوكرانيا، كما أنها أبقت الاتحاد الأوروبي المنقسم موحداً وراء العقوبات ضد روسيا.

ميركل، الألمانية الشرقية السابقة التي تتحدث الروسية بطلاقة هي الزعيم الغربي الوحيد الذي يحترمه بوتين، العميل السابق في المخابرات السوفييتية والذي تعلم اللغة الألمانية خلال فترة عمله في دريسدن.

ويبدو أن قرار ميركل في عام 2015 بعدم إغلاق الحدود أمام المهاجرين القادمين قد قسم الألمان بشدة، رحب الكثير منهم بالمهاجرين المتجمعين في محطة قطار ميونيخ، وأصيب آخرون بالذهول وشعروا بالخوف من هذا التدفق الأجنبي. وفي غضون عام، كاد الخلاف داخل كتلتها المحافظة يُسقط حكومتها.

كما قسمت ميركل الاتحاد الأوروبي، حيث إنها لم تنسق مع الدول الشريكة أثناء أزمة اللاجئين. ومنذ ذلك الحين، ظلت المجر وبولندا وعدد قليل من البلدان الأخرى غاضبة من ذلك، وعرقلت إصلاحات نظام الهجرة في أوروبا وأشياء أخرى كثيرة.

وكما هي عادتها، غيرت ميركل مسارها بشكل تدريجي وبدأت في تشديد سياسة الهجرة، وأصدرت قواعد أكثر صرامة بشأن اللجوء والاندماج والترحيل وغير ذلك، لكن يبقى السؤال: ما الذي جعلها تتفاعل على ما يبدو مع أزمة اللاجئين في عام 2015؟

لا أعتقد أن ذلك خارج عن شخصيتها، فلدى ميركل بوصلة أخلاقية شمالها الحقيقي هو اللياقة، فهي ابنة قس لوثري، وامرأة متدينة، رغم أنها لا تتباهى بذلك. أتذكر اجتماعاً سألها فيه أحدهم عما تقرأ، فأجابت: كتاب عن الرحمة. كما أنها تشعر، مثلها مثل العديد من مواطنيها بأن ألمانيا ما بعد النازية لديها واجب أخلاقي وتاريخي لمساعدة الفارين من الحرب.

بعد 16 عاماً تكون ميركل قد عاصرت خلال فترة رئاستها خمسة رؤساء وزراء بريطانيين، وأربعة رؤساء أميركيين وفرنسيين، ومؤتمرات قمة لا حصر لها. بطريقة ما صمدت ميركل أكثر من كل منافسيها وخصومها، المحليين والأجانب.

وقد فعلت أكثر من ذلك، فقد سيطرت على تلك الأنا المتضخمة، وهي عادة يمارسها الذكور على طاولات المفاوضات، وأجبرت نظراءها الذكور على النزول من عليائهم، وتجنبت الهبوط إلى استفزازاتهم.

أحد الدروس المستفادة من مرحلة ميركل بالنسبة للقيادات الناشئة هو إبقاء الأنا الخاصة بهم تحت السيطرة، فعندما لا يتحكم الآخرون في أنفسهم فإنهم لا يستطيعون السيطرة على السلطة. السمة الأكثر حيوية في الشخصية - التي يجب أن يبحث عنها الناخبون في كثير من الأحيان في المرشحين - هي عدم الغرور. وهذا مؤكد تماماً لدى ميركل، التي هي أقل زعماء العالم غروراً اليوم.

• بعد 16 عاماً تكون ميركل قد عاصرت خلال فترة رئاستها خمسة رؤساء وزراء بريطانيين، وأربعة رؤساء أميركيين وفرنسيين، ومؤتمرات قمة لا حصر لها. وهي اليوم أقل زعماء العالم غروراً.

• ميركل، الألمانية الشرقية السابقة التي تتحدث الروسية بطلاقة، هي الزعيم الغربي الوحيد الذي يحترمه بوتين، العميل السابق في المخابرات السوفييتية، والذي تعلم اللغة الألمانية خلال فترة عمله في دريسدن.

أندرياس كلوث - كاتب عمود رأي في موقع «بلومبيرغ»

تويتر