هل تستطيع المواصلة فيها

روسيا تلعب لعبة حكيمة وناجحة في الشرق الأوسط

صورة

تشير الأحداث التي وقعت، أخيراً، في سورية إلى أن روسيا لم تحل مكان الولايات المتحدة في المنطقة، باعتبارها تقوم بدور الوسيط في الشرق الأوسط، وإنما تحقق عملاً ناجحاً خلال وجودها في هذا الموقع. وجاء الحدث الأخير عندما عقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لقاء مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان. فبعد أن انتهت مهلة اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة في شمال وشرق سورية، قام الرجلان بعقد اتفاقية لإجلاء قوات وحدات حماية الشعب الكردي، من المنطقة العازلة القريبة من الحدود التركية. وستبدأ القوات التركية والروسية تسيير دوريات في المنطقة، الأمر الذي يمنحهما سيطرة مشتركة على المنطقة. ولكن في الوقت الذي تستحق فيه المهارة الدبلوماسية الثناء، فإن الخسارة الأميركية يمكن أن تسبب الصداع لروسيا.

تحول

وقلة كانوا يتوقعون حدوث تحول في مسار الأحداث بهذا الشكل عام 2015، عندما شنت روسيا عملية عسكرية لدعم حكومة الرئيس بشار الأسد، الذي كان في تلك الفترة يواجه مخاطر فقدان السيطرة على مناطق كبيرة من سورية، لمصلحة العديد من المجموعات الأخرى، مثل: قوات حماية الشعب الكردي، وقوات مدعومة من تركيا، وتنظيم «داعش» وآخرين.

وتمتلك روسيا العديد من الأسباب التي تجعلها تدعم الرئيس السوري، فقد كان صديقاً لموسكو، وكذلك والده من قبله. وكان الكرملين يشعر بالقلق من أن سقوط حكومة الأسد سيؤدي إلى انتشار الفوضى في الدولة، أو أن يحل تنظيم «داعش» مكانها. ومن وجهة نظر جيو-استراتيجية، عارضت روسيا تدخلات «تغيير النظام» التي تدعمها الولايات المتحدة في المنطقة، وكانت ترفض إسقاطه. وكانت موسكو متلهفة، أيضاً، لإنشاء نفوذ لها في الشرق الأوسط، وتقدم نفسها باعتبارها شريكاً موثوقاً به. وعلى الرغم من أن تدخلها في سورية كان يمثل معارضة مباشرة لجهود الولايات المتحدة، فإنه من المرجح أن موسكو اعتقدت أنه حالما تتمكن من فرض نفسها كقوة يحسب لها الحساب، فإنها تستطيع ترسيخ أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، وتتفق على بعض الترتيبات مع الأميركيين حول مستقبل سورية، وفي الوقت نفسه تقوم بمحاربة تنظيم «داعش»، وبالتالي فإنها ترسخ نفسها باعتبارها قوة عظمى، وتساعد على إعادة إنشاء العلاقات بين الدولتين.

آثار حاسمة

بالطبع، إن التدخل الروسي في سورية كانت له آثار حاسمة، حيث رجحت كفة الرئيس الأسد في القتال. لكن تعاون المعارضة مع الأميركيين كان ينطوي على الكثير من المراوغة. وفي الوقت الذي لم تكن فيه واشنطن ترغب بتقاسم النفوذ في المنطقة، ظهرت طريقة أخرى مختلفة وغير متوقعة. وأدى التدخل الأميركي الخجول والمتردد، إضافة إلى المهارة الدبلوماسية الروسية، إلى جعل روسيا تصل إلى موقع تحسد عليه في سورية، والمنطقة عموماً.

واتضح كل ذلك خلال الأسبوعين الماضيين، منذ أن أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوات الأميركية من سورية للمرة الثالثة خلال 18 شهراً، لكن هذه المرة كان الإعلان يحتوي بصورة ضمنية على منح الضوء الأخضر لتركيا، للتحرك إلى منطقة شمال شرق سورية، التي تسيطر عليها «قوات سورية الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، إضافة إلى وحدات حماية الشعب الكردي. وقامت روسيا من جانبها بالوساطة لترتيبات تكتيكية بين وحدات حماية الشعب الكردي والحكومة السورية، ودعمت قوات الحكومة السورية في توجهها نحو الحدود مع تركيا، وجعلتها تحافظ على مسافة بينها وبين القوات التركية، والآن وقعت اتفاقية مع أنقرة.

علاقة طيبة

وكان الحفاظ على علاقة طيبة مع جميع الأطراف جوهر سياسة موسكو في الشرق الأوسط. وبخلاف الولايات المتحدة، التي قسمت المنطقة تاريخياً إلى أصدقاء وأعداء، فقد كان أسلوب روسيا براغماتياً، إذ إنها عندما كانت ترى مصالح مشتركة مع دولة معينة، كانت تطورها إلى درجة التعاون. لكن عندما تتضارب هذه المصالح فإنها تقبل أن يقوم كل طرف بما يستطيع القيام به كي يحصل على ما يريد، ويقومان في الوقت ذاته بالتنسيق في قضايا أخرى. وكان عدم الاهتمام في انتقاد الدول الأخرى، في ما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان (روسيا نفسها متهمة باستهداف المدنيين في سورية)، يسهم في قبول روسيا من قبل العديد من دول الشرق الأوسط.

وبالنظر إلى أنها كانت شريكاً للجميع وحليفاً للقليل منهم، كانت موسكو قادرة في الوقت ذاته على حماية الحكومة السورية، وغض الطرف عن الغارات الجوية الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني في سورية، ومساعدة إسرائيل وإيران على تجنب الاشتباك المفاجئ بينهما. وعملت بصورة منتظمة على تحسين علاقاتها مع السعودية.

لكن في الوقت الذي يبدو فيه موقع موسكو في الشرق الأوسط ينطوي على فوائد كثيرة لها، إلا أنه كان ينطوي على تحديات كبيرة. ففي الوقت الذي يتمكن فيه الرئيس الأسد من السيطرة على السلطة بصورة كاملة في سورية، تبدو رغبته في اتباع قيادة موسكو ضعيفة، ومن المرجح أن تزداد ضعفاً في ما بعد. وتمنح علاقة روسيا مع أنقرة نفوذاً متواصلاً على دمشق. لهذا فإنه سيفي بتعهداته إلى حد ما لحماية مصالح وأمن الأكراد. لكن لا دمشق ولا أنقرة على استعداد لتقديم أي تنازلات لوحدات «حماية الشعب الكردي»، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول ما يمكن أن تقوم به موسكو، وإلى أي مدى يمكن أن تحافظ موسكو على علاقات جيدة مع الأطراف الثلاثة.

ومع تقدم الزمن لاتزال أهداف روسيا كما هي ولم تتغير، وتتمثل في رغبتها بسيطرة الرئيس الأسد على سورية المستقرة، والقبول الدولي بحكمه المتواصل، إضافة إلى ضمان وجود نفوذها على المدى الطويل في المنطقة. وفي الوقت ذاته، فإنها لا تريد الاحتفاظ بالتزام عسكري كبير في سورية، على الرغم من أنها تريد إنشاء قاعدة أو اثنتين فيها.

 

الأسد يعاود السيطرة

يبدو أن الرئيس الأسد في طريقه إلى إعادة إحكام سيطرته على الحكم. لكن على الرغم من الاتفاقية مع أنقرة، فإنه يصعب تحقيق الاستقرار والانسحاب الروسي. ولا يتوقف الأمر على أن الحل في منطقة الشمال الشرقي من سورية غير مضمون أبداً، وإنما لأن منطقة الشمال الغربي، إدلب تحديداً، لاتزال تحت أيدي المجموعات المتشددة التي تمثل عقداً لا تقل تعقيداً عن سابقتها. وإضافة إلى ذلك فإن عملية إعادة الإعمار، التي يمكن أن تجعل السلام دائماً في سورية، تتطلب موارد تفوق ما يمكن أن تؤمنه سورية وروسيا. ويمكن أن تكون المساعدة والدعم الدولي أقرب إلى التحقيق إذا حصلت وحدات حماية الشعب الكردي على اتفاقية أفضل، أو تم حل مشكلة منطقة إدلب بصورة معقولة دون سفك دماء، لكن الرئيس الأسد وروسيا سيعترضان على مطالب الفترة الانتقالية.

وفي الواقع، إن العمل والمجازفة اللذين قامت بهما روسيا في الشرق الأوسط وسورية خصوصاً، جعلاها تصبح في موقف قوي. لكنها بطرح نفسها باعتبارها تملأ الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة تكون قد أثقلت كاهلها بعبء مسؤوليات كبيرة أكثر مما كانت تتوقع أو تصبو إليه. وحتى الآن فإنها تدير الأمور بصورة جيدة، لكن مع وجود بضعة خيارات سهلة أمامها، وسورية في وضعها الحالي، فقد لا تكون هذه جائزة تحسد عليها.


- بالنظر إلى أنها كانت شريكاً للجميع، وحليفاً

للقليل منهم، كانت موسكو قادرة في الوقت

ذاته على حماية الحكومة السورية، وغض الطرف

عن الغارات الجوية الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني

في سورية، ومساعدة إسرائيل وإيران على تجنب

الاشتباك المفاجئ بينهما.

- كان الحفاظ على علاقة طيبة مع جميع الأطراف جوهر سياسة موسكو في الشرق الأوسط.

أوليغ أوليكر: مديرة برنامج أوروبا ووسط آسيا في المجموعة الدولية للأزمات.

تويتر