معادلة صعبة وسط تشابك وتناقض مصالح أطراف عدة

موسكو تحاول مقايضة نفوذ إيران في سورية بالعقوبات

صورة

تحاول روسيا في المرحلة الحالية مواصلة تفاهماتها السياسية والأمنية مع الأطراف الرئيسة المنخرطة في الصراع السوري بمستويات وأنماط مختلفة. لكن المشكلة الأساسية التي تواجهها، في هذا السياق تتمثل، هي تشابك وتناقض مصالح تلك الأطراف على نحو يفرض خيارات محدودة أمامها، ولا يتيح لها هامشاً واسعاً من الحركة، بل إنه يتسبب، في بعض الأحيان، في توتر علاقاتها مع هذه الأطراف، على نحو ما هو قائم حالياً في علاقاتها مع إسرائيل بسبب اتهامها للأخيرة بالمسؤولية عن إسقاط طائرة «إيليوشن 20» الروسية في 17 سبتمبر 2018.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الأفكار الجديدة التي تعمدت روسيا الكشف عنها لاستشراف مواقف القوى المعنية بها والخاصة بالوصول إلى مقايضة بين إنهاء نفوذ إيران في سورية مقابل تخفيف العقوبات الأميركية المفروضة عليها، تواجه عقبات عدة لا تبدو هينة، في ظل تباين رؤية الأطراف المختلفة لأهداف وتداعيات تلك العقوبات.

اعتبارات مختلفة:

لن تقبل إيران بسهولة بإنهاء أو حتى تقليص نفوذها في سورية مقابل تخفيف العقوبات الأميركية المفروضة عليها، لاعتبارات عدة، إذ إنها لن تتنازل عن وجودها في سورية، خصوصاً أنها استنزفت موارد مالية وبشرية غير محدودة حتى قبل اندلاع الصراع في سورية في عام 2011، من أجل ترسيخ هذا الوجود ووضع عراقيل عدة أمام الجهود التي تبذل للقضاء عليه أو احتوائه.

كما أن هذه المقايضة معناها توجيه ضربة قوية لحلفائها، لاسيما النظام السوري وحزب الله، باعتبار أن إيران هي المصدر الرئيس للدعم المالي والعسكري، بما يعني أن إنهاء وجودها في سورية سيؤدي إلى وقف هذا الدعم، وبالتالي إضعاف قدراتهم العسكرية في مواجهة الأطراف المناوئة لهم.

فضلاً عن ذلك، فإن هذا الخيار سيفرض تداعيات مباشرة على الميليشيات الطائفية التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها، ليس فقط لمساعدة النظام السوري في مواجهة خصومه وإنما أيضاً لتعزيز جهود إيران في تكريس نفوذها العسكري على الأرض. وبالطبع، فإن عدم حسم المسارات المحتملة للأدوار التي يمكن أن تقوم بها هذه الميليشيات في المرحلة القادمة يضعف من إمكانية قبول إيران بمثل هذه المقايضة، باعتبار أنها ستحسم مصير هذه الميليشيات قبل أن تبحث الخيارات الخاصة بوجودها في سورية.

لا صفقات جديدة

كما أن إيران لن تقبل بأية صفقات جديدة مع الإدارة الأميركية في المرحلة الحالية، إذ إنها قد تفضل التريث في دراسة هذا الخيار، إلى حين تبلور ظروف قد تكون أكثر توافقاً مع مصالحها.

وبمعنى آخر، فإن إيران مازالت مصرة على تحدي العقوبات الأميركية، وترى أن لديها من الآليات ما يمكن أن يساعدها في مواجهة تلك العقوبات، رغم تداعياتها القوية على الساحة الداخلية، بشكل يمكن أن يدفعها إلى تأجيل خيار التفاوض أو الوصول إلى صفقات مع الإدارة الأميركية، حتى تتمكن من تعزيز موقعها التفاوضي لتقديم أقل قدر من التنازلات لواشنطن.

واللافت في هذا السياق، هو أن بعض الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الإدارة الأميركية في مرحلة ما بعد تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات، في 5 نوفمبر الماضي، وجهت ما يمكن تسميته بـ«الإشارات الخاطئة» لإيران، التي اعتبرت، على سبيل المثال، أن إعفاء ثماني دول من العقوبات الأميركية الخاصة بوارداتها النفطية من إيران بشكل مؤقت، يضعف من قدرة الإدارة الأميركية على تحقيق هدفها الخاص بتصفير الصادرات النفطية الإيرانية، وهو ما سيدفعها إلى التمسك بمواقفها على الأقل في المدى القريب، وعدم تقديم تنازلات أو القبول بمثل تلك الصفقات.

شكوك مستمرة:

كما أن إيران مازالت تبدي شكوكاً في إمكانية الوصول إلى اتفاق مع الإدارة الأميركية الحالية، حيث ترى أن انسحابها من هذا الاتفاق هو احتمال وارد بقوة على غرار موقفها من الاتفاق النووي الحالي. وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية محمد جواد ظريف بقوله، في 22 نوفمبر الماضي، إن «إيران لا ترى داعياً لإجراء محادثات جديدة مع الولايات المتحدة دون وجود ضمانات بعدم الرجوع عن أي اتفاق يتم التوصل إليه»، مشيراً إلى سحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب توقيعه على البيان الختامي لقمة مجموعة الدول الصناعية السبع التي عقدت في كندا في 9 يونيو 2018.

واللافت في هذا السياق، هو أن هذه الشكوك الإيرانية تمتد أيضاً إلى روسيا. فرغم التعاون الوثيق بين الطرفين، سواء في الملف النووي أو السوري، فإن إيران باتت تبدي قلقاً واضحاً إزاء السياسة التي تتبناها موسكو في سورية، خصوصاً بعد تغير توازنات القوى العسكرية لمصلحة النظام السوري.

وفي رؤية طهران، فإنه بعد تعزيز موقع النظام السوري تراجع رهان موسكو على الوجود العسكري الإيراني داخل سورية، باعتبار أنه لم يعد هناك داعٍ لبقاء القسم الأكبر من القوات والميليشيات التابعة لإيران طالما أن النظام السوري تمكن من استعادة مساحة كبيرة من الأراضي السورية بالتوازي مع تراجع قدرة القوى المناوئة له على إسقاطه أو تهديد بقائه في السلطة.

وتستند إيران في هذا الصدد إلى التفاهمات المستمرة التي تتوصل إليها روسيا مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وترى أن الهدف الأساسي منها ليس تحجيم نفوذ إيران على الأرض فحسب، رغم أهمية ذلك بالطبع، وإنما تكريس نفوذ روسيا على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية، بل وربما الاجتماعية أيضاً، باعتبار أنها الطرف الرئيس الذي يتحكم في مقاليد الأمور داخل سورية.

رفض أميركي:

كذلك، لا يبدو أن الإدارة الأميركية في وارد القبول بمثل تلك الصفقة، لاعتبارات خاصة بمصالح وحسابات واشنطن. فرغم أن وجود إيران في سورية يحظى باهتمام خاص من جانب الأخيرة، إلا أنه ليس الخلاف الوحيد العالق بين الطرفين، بل إن أهميته قد تتراجع في حال ما إذا قورن بملفات أخرى تحظى بأولوية خاصة من قبلها، على غرار البرنامجين النووي والصاروخي، إذ تتشكك واشنطن في أن إيران تحاول الالتفاف على الاتفاق النووي الحالي، وتستطيع تطوير جانب سري عسكري من برنامجها النووي. فضلاً عن أنها تتابع بالطبع تهديدات إيران باستهداف قواعدها العسكرية من خلال صواريخها الباليستية، وكان آخرها التهديدات التي وجّهها قائد الحرس الثوري، محمد علي جعفري، في 22 نوفمبر الماضي.

ومن هنا، لن تقبل واشنطن، على الأرجح، بالوصول إلى صفقة جزئية مع إيران، خصوصاً أنها ترى أن الاستمرار في السياسة الحالية القائمة على رفع مستوى العقوبات ومواصلة الضغط على إيران، قد يتيح انتزاع مكاسب أكبر على المستويين النووي والإقليمي.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الأفكار الروسية الجديدة لا يبدو أنها تستوعب المعطيات الجديدة التي يفرضها التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، والذي بات مفتوحاً على أكثر من مسار خلال المرحلة القادمة.


إيران مازالت تُبدي شكوكاً في إمكانية الوصول إلى اتفاق مع الإدارة الأميركية الحالية، حيث ترى أن انسحابها من هذا الاتفاق هو احتمال وارد بقوة على غرار موقفها من الاتفاق النووي الحالي.

تويتر