الائتلاف الحاكم يواجه احتمال الانهيار

«هدنة غزة» تعجّل بالإطاحة بليبرمان من الحكومة الإسرائيلية

صورة

لم تمر ساعات معدودة على سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في قطاع غزة حتى أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي «أفيغدور ليبرمان» استقالته من منصبه، وانسحاب كتلة حزب «إسرائيل بيتنا» من الائتلاف الحاكم في إسرائيل بقيادة «بنيامين نتنياهو». وعلى الرغم من ارتباط الاستقالة بالخلافات داخل المجلس الوزاري الأمني المصغر حول إنهاء التصعيد ووقف العدوان على قطاع غزة، فإن انسحاب «ليبرمان» يرتبط بتراجع شعبيته في أوساط اليهود الروس، الذين يُعدون القاعدة الانتخابية الرئيسة لحزبه، والتوقعات بتراجع تمثيل حزبه في انتخابات الكنيست المقبلة في نوفمبر 2019، وتزايد الانتقادات لأدائه في وزارة الدفاع، خصوصاً عدم قدرته على السيطرة على المؤسسة العسكرية.

احتواء التصعيد العسكري

جاء قرار المجلس الوزاري الأمني المصغر في إسرائيل بالموافقة على التهدئة مفاجئاً وغير متوقع لدى الدوائر السياسية في إسرائيل، إذ كانت غالبية التوقعات تُرجِّح تصعيداً عسكرياً في القطاع رداً على إطلاق حركة «حماس» أكثر من 460 صاروخاً من القطاع على جنوب إسرائيل، والهجوم على حافلة الجنود الإسرائيليين بصاروخ كورنيت المضاد للدبابات والمدرعات في محيط قطاع غزة.

وفي الواقع، يأتي قرار قبول الوساطة المصرية والالتزام بالتهدئة ضمن محاولات «نتنياهو» احتواء «التداعيات غير المقصودة» للعملية الاستخباراتية الإسرائيلية في قطاع غزة التي أسفرت عن اغتيال القيادي بكتائب القسام «نورالدين بركة»، وسقوط سبعة آخرين من كوادرها، بالإضافة إلى مقتل ضابط إسرائيلي برتبة مقدم.

وكشفت العملية التي نفذتها القوات الإسرائيلية الخاصة في «خان يونس» بقطاع غزة عن مدى الانفصال بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل، إذ إن هذا الاختراق العسكري المفاجئ لقطاع غزة، الذي لم يتم الإعلان عن أهدافه تزامن مع تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» خلال مشاركته في فعاليات مئوية الحرب العالمية الأولى في باريس التي أكد فيها قيامه ببذل كل الجهود «لتجنب حرب غير ضرورية في غزة»، وعلى الرغم من تشبيهه حركة «حماس» بـ«داعش»، فإنه أكد أن سيطرة «حماس» على قطاع غزة تفرض تفضيل إسرائيل للتهدئة.

ويتزامن توقيت هذه العملية أيضاً مع إقرار الحكومة الإسرائيلية بقيام قطر بإدخال 15 مليون دولار لقطاع غزة ضمن حزمة مالية ستقوم الدوحة بتحويلها لحركة «حماس»، وهو ما أثار عاصفة احتجاجات من جانب أحزاب المعارضة في إسرائيل، بالإضافة إلى اعتراض السلطة الوطنية الفلسطينية على هذه الصفقة باعتبارها تؤثر سلباً على عملية المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، والتحذير من محاولة بعض الأطراف الإقليمية تعزيز الانقسام الفلسطيني ومحاولة فصل غزة عن الضفة الغربية.

ولم يكن قبول «نتنياهو» بالتهدئة سوى محاولة لـ«كبح الانجراف» إلى عملية عسكرية موسعة في قطاع غزة تحت ضغط أقطاب اليمين في حكومته، خصوصاً «أفيغدور ليبرمان» ووزير التعليم «نفتالي بنيت» زعيم حزب البيت اليهودي، كما أن المؤشرات الأولية للعمليات العسكرية كشفت عن تغير معطيات الواقع الميداني، بداية من انكشاف عملية القوات الخاصة التي يُفترض أنها سرية، مروراً باستهداف الصواريخ التي تم إطلاقها من قطاع غزة لمواقع خارج تغطية منظومة القبة الحديدية مثل عسقلان، وهو ما تسبب في تصدي هذه المنظومة لنحو 100 صاروخ فقط من إجمالي 460 صاروخاً تم إطلاقها، بالإضافة إلى استخدام صاروخ كورنيت في استهداف حافلة الجنود الإسرائيليين.

هذه المعطيات كانت كافية لإقناع «نتنياهو» بأن التصعيد العسكري في قطاع غزة لن يكون محدوداً في مداه الزمني، أو مستوى القوة العسكرية التي يتم توظيفها في العمليات العسكرية، بالإضافة إلى انعكاساته الإقليمية والدولية نتيجة الإدانة والتنديد بالعمليات العسكرية الإسرائيلية، كما أن هذه الخلاصة جاءت مطابقة لتوصيات القيادات العسكرية الإسرائيلية التي أوصت بتجنب الاستمرار في العمليات العسكرية في القطاع.

ولا ينفصل ذلك عن سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي للاستفادة من وجود الفصائل المسلحة في قطاع غزة وقوتها العسكرية وقدراتها الصاروخية كفزاعة يقوم بتوظيفها في العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الغربية، للادعاء بمواجهة إسرائيل تهديداً وجودياً يستلزم تعزيز قوتها العسكرية، بالإضافة للحفاظ على معادلة الانقسام الفلسطيني، وتعميق الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية، والضغط على السلطة الوطنية الفلسطينية لتقديم تنازلات ضمن صفقة القرن التي تصوغها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

أما الدافع الأهم لقبول التهدئة فتمثّل في المخاوف من المخاطرة بمصير الائتلاف الحاكم بقيادة «نتنياهو» في مواجهة عسكرية غير محسوبة تفتقد لمعايير واضحة للانتصار الميداني، خصوصاً في ظل الخلافات المحتدمة بين الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم والتحقيقات المتواصلة في الاتهامات بالفساد التي يواجهها «نتنياهو» وبعض أقطاب حكومته، والانتقادات المتصاعدة من جانب أحزاب المعارضة.

سياسة «تحجيم الخسائر»

على نقيض ما اعتبره البعض إقراراً بالإخفاق في العملية العسكرية في قطاع غزة، جاءت استقالة «ليبرمان» بحثاً عن «الخلاص الفردي» لوقف الخسائر السياسية التي تعرض لها منذ أن تولى منصب وزير الدفاع نتيجة تحمله للكلفة السياسية لقرارات التهدئة ووقف التصعيد المتتالية التي تصدر عن المجلس الوزاري الأمني المصغر، والتي كان أبرزها قرار تأجيل هدم قرية «خان الأحمر» في أكتوبر 2018 في شرق مدينة القدس المحتلة عقب الاحتجاجات الفلسطينية، وتصدي أهالي القرية للجرافات الإسرائيلية. وتمثّلت أهم دوافع استقالة «ليبرمان» في الآتي:

1- الاحتجاج على قرار التهدئة

كان من الممكن أن يقوم «ليبرمان» بالإحجام عن الاستقالة لو تم اتخاذ قرار التهدئة بصورة تمنحه بعض المكاسب السياسية عبر إعلان اعتراضه على القرار رغم صدوره، أما «نتنياهو» على الجانب الآخر فسعى لحرمان أقطاب حكومته من التعبير عن مواقف منفردة من خلال عدم طرح القرار للتصويت في المجلس الوزاري الأمني المصغر، وإنما تمريره بالتوافق العام دون تسجيل الأصوات عقب عرض توصيات القيادات العسكرية. وجاء الإعلان عن دعم الحكومة بكل وزرائها لقرار التهدئة من جانب المتحدث باسم مجلس الوزراء ليثير سخط واحتجاج «ليبرمان»، وهو ما دفعه للاستقالة لإثبات اعتراضه عليه.

2- الانفصال عن نتنياهو

يرى «ليبرمان» أن الاصطفاف خلف «بنيامين نتنياهو» قد تسبب في تحمله كلفة سياسية ضخمة بسبب سياسات التهدئة وعدم التصعيد التي يتبعها رئيس الوزراء في قطاع غزة والجبهة الشمالية في مواجهة «حزب الله»، بالإضافة إلى اعتراضه على الوقف السريع للهجمات الإسرائيلية على مواقع إيران في سورية في مايو 2018 عقب إطلاق قوات تابعة لإيران أكثر من 20 صاروخاً على أهداف إسرائيلية في هضبة الجولان.

ويتمثل الخلاف بين نتنياهو وليبرمان في سعي الأخير لقيادة معركة عسكرية ممتدة يثبت خلالها جدارته العسكرية وقيادته للجيش الإسرائيلي، في مقابل حرص نتنياهو على تحقيق مكاسب سياسية، والتركيز على الضربات المركزة للأهداف، مع تجنب التورط في عملية عسكرية موسعة تتضمن خسائر ضخمة وكلفة اقتصادية كبيرة دون أن تحقق نتائجها الميدانية، مثل الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006.

3- تراجع تأييد «إسرائيل بيتنا»

كشفت استطلاعات الرأي الأولية حول توزيع المقاعد في الكنيست الإسرائيلي في الانتخابات المقبلة التي تُجرى في نوفمبر 2019، أن حزب «إسرائيل بيتنا» لن يحصل إلا على ما يراوح بين 4 و5 مقاعد، وهو ما يُمثل امتداداً لاتجاه التراجع في عدد مقاعد الحزب ومستويات التأييد التي يحظى بها خلال الانتخابات المتتالية، حيث تراجع تمثيل الحزب من 15 عضواً عام 2009 ليصل إلى 6 مقاعد فقط في انتخابات 2015 الأخيرة.

وقد دفع ذلك بعض المحللين للقول بأن تحالف إسرائيل بيتنا مع حزب الليكود عادة ما يتسبب في خسائر لحزب «ليبرمان»، وأن انضمام الأخير للائتلاف الحاكم في مايو 2016 كان خطأ سياسياً سوف يتسبب في المزيد من الخسائر للحزب، نتيجة توحده مع السلطة وتماهيه مع سياسة نتنياهو، إلا أن ليبرمان كان يرى في الوصول لمنصب وزير الدفاع فرصة سياسية لن تتكرر، وستفتح الباب أمامه للوصول إلى منصب رئاسة الوزراء مستقبلاً.

4- استعادة ثقة اليهود الروس

يطرح حزب «إسرائيل بيتنا» ذاته ممثلاً للإسرائيليين من أصول روسية، ويوصف ليبرمان ذاته بأنه ضمن فئة «المهاجرين الجدد» لإسرائيل من الاتحاد السوفييتي، ما يجعله حريصاً على استرضاء القاعدة الانتخابية الأساسية له ذات التوجهات المتشددة تجاه الفلسطينيين والرافضة للتسوية.

وقد مهّد ليبرمان مساره السياسي بتصريحات شديدة التعصب حول قصف السد العالي في مصر وتدمير إيران، ثم تعهدات مماثلة بقتل إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، وهي تصريحات تلقى صدى لدى قطاعات اليهود الروس بسبب مواقفهم المعادية للتسوية، إلا أن أداء ليبرمان في وزارة الدفاع أثبت لمؤيديه عدم استحقاقه الثقة نتيجة حفاظه على التهدئة مع حركة «حماس»، والهدنة طويلة الأمد على الجبهة الشمالية مع «حزب الله» المدعوم من إيران، وهو ما دفع بعض المعلقين من اليهود الروس إلى وصفه بأنه «وزير ضبط النفس» وليس وزيراً للدفاع.

وكان انسحاب ليبرمان من حكومة نتنياهو محاولة لاستعادة ثقة اليهود الروس، ومحاولة لـ«النأي بالنفس» عن قرار قبول التهدئة لمعرفته بأن معايير الانتصار في الثقافة السياسية الراسخة لدى القاعدة الانتخابية لحزبه لا تتضمن المواءمات السياسية أو قبول حلول الوسط، وإنما القضاء التام على الخصم على غرار تعامل الجيش الأحمر السوفييتي مع النازيين الألمان خلال الحرب العالمية الثانية.

5- انتقادات «حزب البيت اليهودي»

جاءت استقالة ليبرمان عقب فترة ممتدة من انتقاد شريكه في الائتلاف الحكومي والمنافس الرئيس له على أصوات اليهود الروس وهو حزب البيت اليهودي بقيادة وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت، فعلى مدار الأشهر الماضية تعرض «ليبرمان» لانتقادات حول كونه وزير دفاع ضعيفاً يتبع «سياسات دفاع مشابهة للأحزاب اليسارية»، وأنه غير قادر على التصدي لاختراقات حركة «حماس» للجدار العازل، وأنه «لا يتعامل مع مسيرات العودة بالحزم الكافي».

وعقب استقالة «ليبرمان»، هدد ممثلو حزب البيت اليهودي بالكنيست بالانسحاب من الكتلة الداعمة للائتلاف الحاكم في إسرائيل في حال عدم منح منصب وزير الدفاع لنفتالي بينيت زعيم الحزب، وهو ما يزيد من حدة الضغوط على رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي بات يقود ائتلافاً حكومياً مدعوماً من 61 عضواً بالكنيست من إجمالي 120 عضواً، ما يعرّضه لاحتمالات سحب الثقة، والدعوة لانتخابات مبكرة في حال انسحاب كتلة جديدة من الائتلاف الحاكم.


ضغوط الائتلاف

زادت استقالة ليبرمان من الضغوط التي يواجهها الائتلاف الحاكم في إسرائيل في ظل احتفاظه بأغلبية هشة وغير مستقرة، وتزايد ممارسات ابتزاز الأحزاب الأصغر في الائتلاف لحزب الليكود ونتنياهو لتحقيق مكاسب سياسية، بالإضافة إلى تصاعد دعوات المعارضة لإجراء انتخابات مبكرة، والتحقيقات في الاتهامات بالفساد التي يتعرض لها «نتنياهو» وبعض معاونيه وأقطاب حكومته، والاحتجاجات الحادة في مناطق جنوب إسرائيل المحاذية لقطاع غزة رفضاً لقبول الحكومة للتهدئة.

لم يكن قبول نتنياهو بالتهدئة سوى محاولة لـ«كبح الانجراف» إلى عملية عسكرية موسعة في قطاع غزة تحت ضغط أقطاب اليمينفي حكومته.

تويتر