تُركوا يعيشون في معاناة مزمنة

العالم يركّز اهتمامه على شمـال العراق وينسى جنوبه

صورة

كشفت الاحتجاجات العنيفة الأخيرة في مدينة البصرة العراقية، عن سنوات من معاناة العراقيين في عاصمة العراق الاقتصادية، نظراً لاحتياطات النفط الهائلة الموجودة فيها، والميناء البحري العميق، الذي يربط الدولة بالسوق العالمية. ويتألف سكان البصرة من غالبية شيعية، وأقلية مهمة تتضمن العراقيين من أصول إفريقية، والمسيحيين. وهي ثاني أضخم مدينة في العراق، وتتمتع بسمعة متطورة، كونها تضم بعض أهم فناني العراق. وخلال حرب الخليج الأولى استخدم الجيش العراقي البصرة كطريق لغزو الكويت، وبعد نحو عقد من الزمن استخدمت القوات التي كانت تقودها الولايات المتحدة البصرة للزحف نحو بغداد واحتلالها عام 2003.

سنوات من الإهمال

ولا تمثل الأزمة الحالية في البصرة تطوراً جديداً، وإنما هي ناجمة عن سنوات من الإهمال من قبل المجتمع الدولي، والحكومة العراقية معاً. وتفاقم الصراع المدني في المنطقة نتيجة تركيز الحكومة على دحر تنظيم «داعش» الإرهابي في العراق، والتوزيع غير العادل للموارد، الأمر الذي جعل الوضع الحالي متوقعاً ويتعذر منعه. وعلى الرغم من أن البصرة كانت تتألف من عدد من الأقنية الرائعة التي تجري في المدينة، والتي عرفت في السابق بأنها فينيسيا الشرق الأوسط، إلا أنها أصبحت الآن عبارة عن أقنية مجارٍ مفتوحة.

وإثر الحملة العسكرية ضد تنظيم «داعش»، انصب معظم التركيز الدولي على الاحتفال بتحرير شمال العراق، وإعادة بناء هذه المنطقة، كما انصب معظم التركيز الوطني والدولي على مصالحة مكونات الشعب العراقي في المناطق التي تم تحريرها، ونجم عن ذلك إهمال جنوب العراق الذي يقطن في مدنه غالبية شيعية، كما أن استقرار هذه المنطقة النسبي اعتبر شيئاً مسلّماً به.

وأسفرت التظاهرات والاشتباكات مع الشرطة طيلة الصيف الماضي، إلى وقوع 27 ضحية مع نهاية سبتمبر الماضي، إضافة إلى اغتيال الناشطة لحقوق المرأة سعاد العلي. وعكست هذه الاحتجاجات غضب العراقيين على فساد الحكومة، وسلطت الضوء على البطالة والخدمات الفقيرة في مدن الجنوب. واستهدفت هذه التظاهرات سياسيين كباراً وكذلك قوى أجنبية، كونها تدعم النخبة السياسية، مثل الولايات المتحدة وإيران.

وعلى الرغم من أن 80% من إجمالي الناتج المحلي من المناطق المحيطة بالبصرة الغنية بالنفط. إلا أن الميزانية المخصصة لهذه المنطقة لا تعكس حقيقة ثرائها النفطي.

إهمال

وفي واقع الأمر أهملت الحكومة العراقية هذه المنطقة لتركيز مساعداتها التنموية على الشمال، ولكن الوضع الأمني في الجنوب في حالة تدهور، ومستوى الفقر في ازدياد، الأمر الذي يثير القلق، لأن شبان جنوب العراق الذين حاربوا من أجل هزيمة «داعش» يعيشون حالة من الفقر والعوز.

وكان وجود تنظيم «داعش» قد دفع العراقيين إلى التوحد، حيث شعر الجنوبيون بالخطر الذي يشكله هذا التنظيم، خصوصاً عندما دعا آية الله السيستاني إلى التطوع، حيث أجاب الشبان من الطائفة الشيعية المتركزة في جنوب العراق.

وبعد أن أنهى هؤلاء الشبان المدربين والمسلحين بصورة جيدة حربهم ضد «داعش»، عادوا إلى مدنهم في جنوب العراق، بما فيها البصرة لمواجهة الحرمان والفقر، وانصاعوا للدعوات الدولية والمحلية لترك حياة العسكرية والعودة إلى بيوتهم، ولكنهم يعانون الآن البطالة وأحياناً التشرد، في الوقت الذي يعجز فيه الاقتصاد العراقي عن تقديم الرواتب للقطاع الأمني الذي يتوسّع باستمرار. وما يهدد وضع هؤلاء حالة الاستقرار التي يعيشها العراق. وتفاقمت شكاوى هؤلاء الشبان نتيجة حقيقة أن أموال إعادة البناء والتنمية يتم توجيهها كلها نحو المناطق التي ضحوا بأنفسهم لتحريرها.

وخصص برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة في الربع الأول من عام 2018 نحو 153 مليون دولار من أجل شمال العراق، مع برامج أخرى تركزت على هذه المناطق المحرّرة قدمتها وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية، ووزارة التنمية الدولية في بريطانيا ولاعبون آخرون. وعلى نحو مشابه فإن قلة فرص التنمية والفساد الحكومي قبيل عام 2014 في الموصل والمناطق المحيطة بها أسفر عن قيام تنظيم «داعش».

وبالطبع فإن تكرار مثل هذه الأخطاء في جنوب العراق من شأنه أن يسفر عن زيادة الاعتماد على إيران، خصوصاً في ظل تزايد الدعوات إلى استقرار البصرة.

التخلص من المركزية

ومنذ عام 2003، أدى فشل حكومة بغداد في تقديم الخدمات العامة، مثل الرعاية الصحية، وفرص العمل، والحصول على مياه الشرب النظيفة، إلى زيادة الطلب على التخلص من المركزية في الحكم، والحصول على حكم ذاتي، عندما يتعلق الأمر بالإنفاق. وأدت هذه المطالب والوعود الزائفة الأخرى إلى جعل الشبان يدعمون حركات مستقلة مثل «جمعية أبناء البصرة»، حيث عمد الشبان المتظاهرون إلى رفع علم البصرة المستقلة.

ومنذ عام 2014، قدمت حكومة الولايات المتحدة 1.7 مليار دولار كمساعدات إنسانية لدعم نحو ستة ملايين نازح داخلي في العراق. وتعهدت الولايات المتحدة في حينه تقديم مزيد من التمويل لتشجيع عودة هؤلاء النازحين إلى بيوتهم في شمال العراق. ولكن لتشجيع الاستقرار في عموم أماكن العراق، يجب أن تشمل هذه الشراكة الدعم لجميع مناطق العراق. وفي الفترة بين 2016 و2017 قدمت وزارة الدفاع الأميركية من خلال صندوق تدريب العراق وتزويده بالمعدات، مساعدات تقدر قيمتها بـ2.7 مليار دولار، من أجل تدريب قوات الأمن العراقية على تنظيم الحملة المخصصة لمحاربة تنظيم «داعش»، ما أسفر عن اتساع الفجوة الأمنية بين الشمال والجنوب، بعد انسحاب جنود الحكومة العراقية من البصرة، وانتقالهم إلى خطوط الجبهة في مدن الشمال مثل الموصل وتلعفر وتكريت.

وبالنظر إلى أن قوات الأمن العراقية باتت منهكة إثر الحرب في عام 2003، وحدوث فراغ في السلطة، قامت كيانات قبلية باحتلال هذا الفراغ، واستغلّت المواطنين من خلال الترهيب، ودفع الدية وهجمات الانتقام، الأمر الذي أدى إلى حالة العنف المستمرة في العديد من المناطق التابعة للبصرة.

وتحولت الصراعات القبلية في البصرة إلى اشتباكات عنيفة، ما أدى إلى تحول بعض المناطق السكنية إلى مناطق صراع. وعند مقتل شخص من قبيلة ما، يكون هناك تهديد بحدوث أعمال قتل أخرى انتقاماً له. ونادراً ما كانت تتدخل قوات الأمن المحلية في هذه الصراعات القبلية، وغالباً ما كانت تهجر هذه المناطق التي تملؤها الصراعات بصورة كلية بالنظر إلى عدم امتلاكها السلاح الملائم لفرض سلطتها.

وقام رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، بإرسال الجيش العراقي والشرطة الاتحادية لفرض الأمن، إثر حدوث هذه الحروب القبلية. ولكن مثل هذه الجهود العسكرية تعتبر حلاً قصير النظر، كما أظهرت الاشتباكات العنيفة المتكررة في البصرة منذ فبراير الماضي.

ولطالما تمت معالجة قضية الاستقرار في العراق بصورة جزئية وسطحية، وليس التركيز على الشكاوى والمظالم الطويلة الأمد. وكان أحد الأسباب التي أدت إلى التظاهرات الغاضبة في البصرة هو الافتقار إلى مياه الشرب النظيفة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قدمت برنامجاً بقيمة 750 ألف دولار، إلا أنه لم يكن كافياً للمدينة التي يبلغ تعداد سكانها نحو 2.5 مليون.

تفاقم حالة العنف

يمكن أن تؤدي الشكاوى والمظالم الأساسية، مثل الحكم الفاشل والفساد الحكومي المنتشر، وانهيار الاقتصاد الذي أدى إلى عجز حكومة العراق عن تقديم مياه الشرب النظيف، إلى تفاقم حالة العنف في المستقبل القريب، بالنظر إلى عدم وجود الأمن وحكم القانون.

ويعيش 10% من السكان في شتى أنحاء العراق في منازل غير رسمية، تراوح بين الأكشاك المصنوعة من الخشب والخيم، حيث يعيش 20% من هؤلاء في البصرة. ونتيجة التنمية البائسة والافتقار للأمن، إضافة إلى ارتفاع معدل البطالة والعداوات القبلية، وعودة مقاتلي الحشد الشعبي، كل ذلك أسهم في حدوث الوضع الكئيب في البصرة.

ولتحقيق الاستقرار في العراق، يجب أن يشارك جنوب العراق في جهود المصالحة الدولية والمحلية وإعادة التأهيل. وأن يكون هناك توزيع عادل للتمويل بما فيه محاسبة الحكومة على الفساد المستشري بين جميع مسؤوليها، وهو الأمر الذي أدى إلى تدمير الخدمات. وعلى الرغم من أن النصر ضد تنظيم داعش تم إعلانه في ديسمبر 2017، إلا أن الاستقرار الدائم في العراق لايزال بعيد المنال.

- الوعود الزائفة أدت

إلى جعل الشبان

يدعمون حركات

مستقلّة، مثل

«جمعية أبناء البصرة»،

إذ عمد المتظاهرون

إلى رفع علم البصرة

المستقلة.

- قضية الاستقرار

في العراق كانت

تتم بصورة جزئية

وسطحية، دون

التركيز على

الشكاوى والمظالم

طويلة الأمد.

- الافتقار إلى مياه

الشرب النظيفة

من الأسباب التي

أدت إلى التظاهرات

الغاضبة في البصرة.

- الولايات المتحدة

قدمت برنامجاً بقيمة

750 ألف دولار،

إلا أنه لم يكن كافياً

لمدينة البصرةالبالغ

تعداد سكانها

نحو 2.5 مليون.

تويتر