حرب مستمرة بين المؤسسات الرسمية والمدنية الأوروبية و«الأقليات المسلمة»

«اللاعنفي».. أخطر أشكال الإسلام السياسي في أوروبا

صورة

تنتاب الكثير من الدول الأوروبية مخاوف بشأن تزايد أعداد المسلمين، وازدياد نفوذ ما يطلق عليه «الإسلام السياسي». ولهذا السبب اتخذت دول أوروبية إجراءات بشأن الحد مما تعتبره تهديداً لثقافتها ومؤسساتها المدنية والدينية. ولعل ما قامت به حكومة اليمين المتطرف النمساوية بإغلاق سبعة مساجد، وطرد عشرات الأئمة، أحد هذه التدابير، حيث اعتبرت الحكومة النمساوية أن هذا الإجراء هو «البداية فقط» ضد الإسلام الراديكالي، ومجموعات التمويل الأجنبي للدين. هذه الحكومة المشكلة من تحالف يضم المحافظين واليمين المتطرف، جاءت إلى السلطة بعد فترة قصيرة من تدفق اللاجئين على أوروبا. وصرح المستشار النمساوي، سباستيان كيرتز، بأن «الإسلام السياسي والميول الراديكالية ليس لها مكان في النمسا».

يرى محللون أن من

المهم أن تفهم

الحكومات الغربية أن

هناك ما يسمى

«الإسلام

السياسي»، وهو

ليس متجانساً، ولكن

له وجوه عنيفة

وأخرى مسالمة،

وفي الواقع

فإن الوجه غير العنيف

للإسلام السياسي

هو الأكثر خطورة

على المجتمعات

الأوروبية.


«الذئاب الرمادية» جماعة مسؤولة عن 694 اغتيالاً،

بما في ذلك المجازر في ميدان تقسيم (1977)

وكهرماناش (1978)، وخلال الحرب في سورية

قامت الجماعة بتدريب لواء سلطان عبدالحميد،

الذي جمع قادة التركمان الرئيسين.


يستطيع الإسلام السياسي أن يوسع أراضيه

تدريجياً من خلال التغيير الجذري لأشكال

التعبير الإسلامي المعتدلة، ويعود ذلك جزئياً

إلى زيادة أعداد المساجد وعن طريق

التسلل إلى «التقاليد والمؤسسات»

في البلدان الأوروبية.

إجراء قانوني

واستناداً إلى قانون «تطبيق الإسلام» في النمسا، المعتمد في فبراير 2015، شرع وزير الشؤون الداخلية النمساوي في إغلاق سبعة مساجد، وطرد 40 إماماً (يوجد في البلاد 260 إماماً)، ويعود السبب في ذلك إلى أن هؤلاء الأئمة نظموا حفلاً للأطفال في زي عسكري، ما اعتبره الوزير تجاوزاً للحدود الثقافية لنشاطاتهم المفروضة بموجب القانون المذكور.

هؤلاء الأئمة هم أعضاء في ما يسمى «الذئاب الرمادية»، وهو الفرع شبه العسكري لحزب العمل الوطني. و«الذئاب الرمادية» منظمة تسامحية تركية. في عام 1981، حاول العضو رقم 2 في هذه المنظمة، محمد علي أغا، اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني، لوضع حد لسياسة الانفتاح على الشرق. وقد اعتبرت هذه الجماعة مسؤولة عن 694 اغتيالاً، بما في ذلك المجازر في ميدان تقسيم (1977)، وكهرماناش (1978)، وخلال الحرب في سورية، قامت «الذئاب الرمادية» بتدريب لواء سلطان عبدالحميد، الذي جمع قادة التركمان الرئيسين. وبدعم من المخابرات التركية، استفادت المجموعة من التدريب في القاعدة العسكرية في باير-بوكاك. وفي نوفمبر 2015، أصدر أحد قادتهم، ألبارسلان سيليك، الذي يحمل شهادة مواطنة مزدوجة، سورية - تركية، أمراً باغتيال قائد عسكري روسي.

ويبلغ عدد سكان النمسا 8.8 ملايين نسمة، منهم نحو 600 ألف مسلم، معظمهم من تركيا أو لديهم عائلات تركية الأصل.

حصان طروادة

هناك مخاوف متزايدة من أن الشباب المولودين في أوروبا، الذين يذهبون إلى سورية للانضمام إلى المتطرفين، قد يسعون عند عودتهم إلى بلادهم لتأسيس دول إسلامية هناك. أحد الشباب البريطانيين، الذي كان يقاتل مع جبهة النصرة، صرح لوسائل الإعلام بـ«إننا لن نعود إلى بلادنا حتى نرى علم الدولة الإسلامية يرفرف فوق قصر باكنغهام». في أبريل 2014، حث رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، الغرب على تنحية خلافاته جانباً مع روسيا والصين، للتركيز على التهديد المتنامي للإسلام السياسي. وقال بلير إن معالجة «وجهة نظر متطرفة ومسيسة عن الإسلام» يجب أن تكون على رأس أجندة السياسة العالمية. وقبل حديث بلير مباشرة عن مؤامرة مزعومة لأسلمة المدارس البريطانية في برمنغهام، يطلق عليها «عملية حصان طروادة»، برزت هذه المعضلة على عناوين الصحف، على نحو متزايد في المملكة المتحدة بأن الإسلام المتطرف الراديكالي يتغول على «تقاليد ومؤسسات البلاد».

الإسلام السياسي

تشير التقديرات الحالية إلى أن عدد المسلمين الذين يعيشون في أوروبا يبلغ نحو 44 مليون نسمة - لا توجد بيانات رسمية متاحة ــ ولكن تستضيف جميع الدول الأوروبية تقريباً مجتمعات مسلمة. الغالبية العظمى منهم مواطنون رسميون، ويرى محللون أن من المهم أن تفهم الحكومات الغربية أن هناك ما يسمى «الإسلام السياسي»، وهو ليس متجانساً، ولكن له وجوه عنيفة، وأخرى مسالمة، وفي الواقع فإن الوجه غير العنيف للإسلام السياسي هو الأكثر خطورة على المجتمعات الأوروبية. وغالباً ما يساوي محللون بين «الإسلاميين» و«الجهاديين»، ولا يميزون بين الفصائل العنيفة وغير العنيفة. في دراسته حول انتشار الأسلمة أو «الإسلام السياسي» في أوروبا، يتحدث الخبير الأكاديمي الأمني المتخصص في الإسلام والعنف السياسي في أوروبا وأميركا الشمالية، ومستشار السياسات في المؤسسة الأوروبية الديمقراطية، لورنزو فيدينو، يتحدث عن الأسلمة باعتبارها «حركة سياسية شديدة التنوع ومتغيرة باستمرار». ووفقاً لفيدينو، هناك في الأساس ثلاث فئات من الإسلاميين: رافضون عنفويون، ويعرفهم بعبارات مثل «الجهاديين»، ورافضين غير عنفويين، ومشاركون، وكل من هذه المكونات التي تحدد الإسلام السياسي له وجود وبنية وطريقة عمل مختلفة. وكل ذلك، يمثل في نهاية الأمر نوعاً مختلفاً من التحدي لأوروبا. وبدأ الأوروبيون يهتمون بما يسمونه «التهديد الجهادي»، ويبتكرون حلولاً جديدة لاحتوائه. ويعود ذلك إلى حقيقة أن «الجهاديين» محليي المنبت يقاتلون بالمئات في سورية، ويتوعدون بأنهم إن ظلوا على قيد الحياة فإنهم سيؤسلمون أوروبا بكاملها.

«الجهاديون» أو «الرافضون العنفويون»

يقول فيدينو إن «الرافضين العنفويين»، الذين يشار إليهم في كثير من الأحيان باسم «الجهاديين»، هم أفراد وشبكات ترتبط في كثير من الأحيان بتنظيم «القاعدة»، أو يستوحون نشاطهم منه، ويرفضون المشاركة في النظام الديمقراطي، ويستخدمون العنف لتحقيق أهدافهم. وعادة ما يكون الرافضون العنفويون هم الأهداف الرئيسة، إن لم يكنوا الوحيدين، لبرامج مكافحة التطرف الأوروبية.

«الرافضون اللاعنفويين»

وفقاً لفيدينو، فـ«الرافضون اللاعنفويين» هم أفراد وجماعات مثل السلفيين، وحزب التحرير، الذين يرفضون صراحة شرعية أي نظام حكم لا يستند إلى الشريعة الإسلامية، لكنهم لا يدافعون ــ علناً على الأقل ــ عن استخدام العنف لتعزيز أهدافهم.

المشاركون

يرى فيدينو في أسفل هرم الإسلاميين، المكون الأكثر أهمية من حيث المبدأ للإسلام السياسي في أوروبا، وهم «الإخوان المسلمون»، وغيرهم من الحركات الإسلامية «المشاركة». والمشاركون هم أفراد وجماعات تلتزم بتلك السلسلة من الإسلاموية، التي تدعو إلى التفاعل مع المجتمع ككل، سواء على المستوى الجزئي من خلال النشاط الشعبي، أو على المستوى الكلي من خلال المشاركة في الحياة العامة والعملية الديمقراطية. ويشرح فيدينو أن هذه الجماعات، على عكس «الرافضين»، اتخذت قراراً واعياً لتجنب المواجهة غير الضرورية مع السلطات، واختارت بدلاً من ذلك سياسة ذكية ومليئة بالمشاركة مع المؤسسة الأوروبية.

دور «الإخوان المسلمين» في الدول الغربية

إن خصائص هذا الدور «المشارك» موضحة بدقة في كتاب «أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة»، الذي نشره في عام 1990 أحد علماء «الإخوان المسلمين»، وهو يوسف القرضاوي. لقد خصص القرضاوي جزءاً كبيراً من كتابه لوجود الأقليات المسلمة في الدول الغربية، وهي فرصة غير مسبوقة قد تمثلها هذه الظاهرة للحركة الإسلامية، والتي، حسب أقوال القرضاوي، يمكن أن «تلعب الدور القيادي المفقود للأمة الإسلامية، مع جميع اتجاهاتها وجماعاتها، في توجيه وتشكيل عقول المهاجرين المسلمين الذين يعيشون في الغرب».

ويعتقد فيدينو، أن القرضاوي لديه وصفة بسيطة عن كيف يمكن للحركة الإسلامية أن تصبح قائداً للمجتمعات المسلمة في الغرب. يقول القرضاوي «حاول أن يكون لديك مجتمع صغير خاص بك داخل المجتمع الأكبر»، ويمضي قائلاً «غيتو خاص بالمسلمين». ويدافع عن إنشاء شبكة من المراكز الإسلامية ومراكز الفكر، والمجلات والمساجد والمؤتمرات، لكي تتمكن الحركة الإسلامية من نشر نسختها المسيسة للإسلام بين المسلمين الغربيين. وفي الوقت نفسه، يؤيد القرضاوي الاعتدال والانفتاح النسبي عند التعامل مع غير المسلمين، على الأقل في هذه المراحل المبكرة، ويؤكد أن المواجهة يمكن أن تضر فقط بالحركة، في حين أن عرض واجهة معتدلة سيسمح لـ«الإخوان» بالعمل تحت شاشة الرادار.

وفقاً لفيدينو، فإن «الهدف الثاني المشترك لجميع منظمات الإخوان الأوروبيين هو أن تصبح هذه الكيانات ممثلاً رسمياً أو فعلياً للجالية الإسلامية في بلادها، وأن تصبح هذه الكيانات الشريك المفضل - إن لم يكن الحصري - للحكومات الأوروبية والنخب، وهذا من شأنه أن يخدم أغراضاً مختلفة، أحدها أعلنه (الإخوان) على رؤوس الأشهاد، وهو الإسهام بشكل إيجابي في مستقبل المجتمع الأوروبي. ومن خلال تسليط الضوء على القيم المشتركة، فإن (الإخوان)، في الواقع، يقدمون أنفسهم كقوة معتدلة، تشجع المسلمين على المشاركة في الوقت نفسه في المجتمع، ونشر مبادئهم الإسلامية، الأمر الذي يفيد الجميع في نهاية المطاف».

ويخلص فيدينو إلى أنه «من خلال الاستفادة من مثل هذه العلاقة، فإن (الإخوان المسلمين) يهدفون لكسب ثقة الحكومات الأوروبية، لكي يتسنى لهم إدارة جميع جوانب الحياة المسلمة في كل بلد أوروبي. ومن الناحية المثالية، سيصبح (الإخوان) هم الأشخاص الذين تعهد إليهم الحكومات الأوروبية إعداد المناهج واختيار المعلمين للتعليم الإسلامي في المدارس العامة، وتعيين الأئمة في المؤسسات العامة، مثل الجيش والشرطة أو مصلحة السجون، وتلقي الإعانات لإدارة مختلف الخدمات الاجتماعية».

مدارس برمنغهام

نعود إلى مدارس برمنغهام، حيث إن الاستراتيجية ذات الركائز الخمس، التي تم عرضها في الوثيقة المسربة التي تشرح «عملية حصان طروادة»، تعكس إلى حد كبير رؤية القرضاوي لنشر الحركة الإسلامية في الغرب، وأنها النموذج الأصلي لاستراتيجية المشاركة. وتتمثل في أن يتم التسلل تدريجياً إلى المؤسسات التعليمية، والاستيلاء عليها. لا يوجد أي عنف في هذه المرحلة، ويتمثل المفتاح في الضغط «المكثف»، وهذا هو الوجه اللاعنفي للإسلام السياسي. وعلى الرغم من خلق ثقافة الخوف والترهيب في المدارس، وتهميش المعلمين أو إجبارهم على ترك وظائفهم، وتوجيه الأطفال في مدرسة ابتدائية غير دينية افتراضية، وإلغاء النشاط العادي في عيد الميلاد، يمكن اعتبار كل هذا عنفاً (خفياً) أيضاً. وتُظهر وثيقة «عملية حصان طروادة» أن المشاركين يمكنهم الاستفادة من الآباء السلفيين، فمن غير المحتمل أن يلجأ مثل هؤلاء الآباء إلى أعمال عنف مباشرة، ولكنهم قد يكونون عرضة للتطرف القوي لأهدافهم الدينية.

الإسلام السياسي يوسع نطاقه تدريجياً

يتعين على الحكومات الغربية أن تفهم أن الأحداث في برمنغهام نموذجية للغاية بالنسبة للطريقة التي يتوسع بها الإسلام السياسي في الغرب. ويستطيع الإسلام السياسي أن يوسع أراضيه تدريجياً، من خلال التغيير الجذري لأشكال التعبير الإسلامي المعتدلة، ويعود ذلك جزئياً إلى زيادة أعداد المساجد، وعن طريق التسلل إلى «التقاليد والمؤسسات» في البلدان الأوروبية. وتعتبر أحداث العنف مفيدة حتى في هذه الاستراتيجية: حوادث العنف البدني النادرة تمنح المشاركين إمكانية الوقوف إلى جانب الحكومة ضد «الأشرار»، في الوقت الذي يعلنون فيه أنفسهم كـ«أخيار». والأثر هو حلقة من سياسات الاسترضاء للسلطات المحلية التي تسهل انتشار الإسلام السياسي، وتترك السكان غير المسلمين دون حماية، أو إثارة مشاعر «يمين متطرف» في المجتمع.

ويترتب على ذلك أن الحكومات الغربية يجب أن تعرف جيداً حدودها في ما يتعلق بمظاهر الإسلام السياسي. إن ثقافة «الاسترضاء» تجعل مواطنيها ومجتمعاتها عرضة للتلاعب من قبل الإسلاميين، من أجل تعزيز تفوقهم الإسلامي في الغرب، وفي النهاية قد يكون هذا مدمراً للمجتمعات الغربية. لا غنى عن الجدل العام الجاد، والسياسات الحكومية الصارمة، لتحويل مسار التوسع الإسلامي.

تويتر