تقودها أوروبا بسلاح المقاطعة الاقتصادية بسبب تعنّت إسرائيل في عملية السلام

الانتفاضة الفلسطينية الثالثة تشتعل فب بروكسل

صورة

كنت أتساءل لبعض الوقت عن عدم اندلاع أي انتفاضة ثالثة في الوقت الراهن؟، بمعنى أنه ليس هناك انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة الغربية، ونعلم أن الانتفاضة الأولى حفزت عملية أوسلو للسلام، والثانية استقطبت مزيد من العنف والذخيرة الحية من الجانب الإسرائيلي، والتفجيرات «الاستشهادية» من الجانب الفلسطيني، والتي أدت إلى انهيار اتفاق أوسلو. هناك العديد من التفسيرات من الفلسطينيين عن عدم اندلاع الانتفاضة الثالثة: إنهم فقراء جداً، ومنقسمون، ومنهكون، أوأنهم يدركون أن هذه الانتفاضات، في نهاية المطاف، سببت لهم ضرراً أكثر مما جلبت لهم نفعاً، لا سيما الانتفاضة الثانية. ولكن يمكننا أن نقول أن الانتفاضة الثالثة تعتمل في الخفاء، وهي من النوع الذي تخشى إسرائيل حدوثه دائما، إنها ليست انتفاضة بالحجارة أو الاستشهاديين، ولكنها مدفوعة بمقاومة غير عنيفة، أو بالأحرى المقاطعة الاقتصادية.

هذه الانتفاضة الثالثة لا يقودها الفلسطينيون في رام الله، وإنما الاتحاد الأوروبي في بروكسل وغيره من المعارضين للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في جميع أنحاء العالم. وبغض النظر عن منشئها، فإن هذه الانتفاضة أصبحت مصدر ثقل حقيقي للفلسطينيين في مفاوضاتهم مع إسرائيل.

سحب استثمارات

ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مؤخرا أن أكبر شركة لإدارة صندوق للتقاعد في هولندا «بي جي جي أم» قررت سحب جميع استثماراتها من أكبر خمسة بنوك إسرائيلية لأن هذه البنوك لديها فروع في الضفة الغربية وتمول أو تشارك في تمويل بناء المستوطنات. كما ذكرت صحيفة «جيروزاليم بوست» أن «بنك دانسك»، وهو أكبر بنك في الدنمارك، قرر مقاطعة «بنك هبوعليم» الإسرائيلي «لأسباب قانونية وأخلاقية» تتعلق بعملها في المستوطنات.


تغير الدور الإيراني

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/02/89477.jpg

تكتسب الانتفاضة الفلسطينية الثالثة قوة بسبب غياب اثنين من القادة الرئيسيين من المشهد السياسي: الرئيس الجنوب أفريقي الراحل، نيلسون مانديلا، والرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد. بالنسبة لإسرائيل فإن أحمدي نجاد كان هدية لها، وحافظ على عطائه لإسرائيل من دون أن يشعر، إذ أن هذا الرئيس الايراني، نفى حقيقة المحرقة، ورفض الجهود العالمية لحمل إيران على الكف عن تطوير قنبلة نووية. ولهذا من الصعب أن تحبه إسرائيل. من الناحية الأخرى فإن استبدال أحمدي نجاد بالرئيس حسن روحاني، الذي يجنح للتفاوض ويعترف بالمحرقة يسبب إشكالية أكبر لإسرائيل. ولكن حدسي يقول لي أيضا أن وفاة مانديلا قد تركت العديد من أتباعه يبحثون عن طرق لتكريم إرثه والاستمرار في عمله. وتتمثل إحدى هذه الجهود التي أنشأتها بعض الجامعات في مقاطعة إسرائيل حتى تضع حداً لاحتلال الضفة الغربية.

وتعرض وزير الخارجية الأميركي، جون كيري أخيراً إلى هجوم من قبل القادة الإسرائيليين بسبب تحذيره لهم علنا بأن المقاطعة والحملة الرامية لنزع الشرعية عن إسرائيل ستصبح أقوى وستستعر إذا فشلت محادثات السلام الحالية، ويبدو أن حديث كيري صحيحاً، إذ صرح وزير المالية الإسرائيلي، يائير لابيد، لراديو الجيش الاسرائيلي الاثنين الماضي أنه إذا لم يتم التوصل إلى حل الدولتين مع الفلسطينيين، «فإن ذلك من شأنه أن يصيب جميع جيوب الإسرائيليين في مقتل»، لأن الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد على التكنولوجيا والصادرات الزراعية من أوروبا وعلى الاستثمارات الأوروبية في الصناعات التكنولوجية عالية الدقة. ووفقا للابيد، فإن أي مقاطعة حتى ولو كانت محدودة للصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا بنسبة 20% فمن شأنها أن تكبد إسرائيل أكثر من 5 مليارات دولار سنويا، والآف من فرص العمل. ويضيف «في هذه الحالة فإن اسرائيل لن تطبق سياستها القائمة على التهديد ولكنها ستتظاهر بأن مثل هذه التهديدات ليست موجودة، أو أنها ليست خطيرة، أو أنها لا تحدث أمامها، وأيضا ليست جدية أو خطرة».

هذه الانتفاضة الثالثة، في رأيي، لديها الكثير من الامكانيات والأسباب التي من شأنها أن تؤثر على إسرائيل على المدى الطويل، لأنها خلافا للانتفاضتين الأوليين، تأتي بالتزامن مع العرض المقدم من الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، كجزء من حل الدولتين، والذي يتمثل في السماح للقوات الإسرائيلية بالبقاء لمدة خمس سنوات ثم الانسحاب تدريجياً من الضفة الغربية إلى حدود عام 1967، ومن ثم السماح لقوات حلف شمال الاطلسي (الناتو) التي تقودها الولايات المتحدة ملء أي فراغ استراتيجي لطمأنه إسرائيل. وبعبارة أخرى، فإن الانتفاضة الثالثة تستند على استراتيجية تجعل الإسرائيليين يشعرون بالأمان استراتيجياً ولكنهم غير آمنين أخلاقياً.

فشلت الانتفاضتين الأولى والثانية في نهاية المطاف لأنهما لم يضعا في الاعتبار خريطة حل الدولتين والترتيبات الأمنية. ولكنها كانت تتفجر بالغضب ضد الاحتلال الإسرائيلي. وفي حقيقة الأمر فإنه من غير الممكن تحريك الأغلبية الصامتة الإسرائيلية إذا كانوا لا يشعرون بالأمان الاستراتيجي ولكنهم في الوقت نفسه يشعرون بأنهم آمنين من الناحية الأخلاقية، وهو ما فعلته حركة (المقاومة الإسلامية) «حماس» بقصفها المجنون لإسرائيل بعد انسحابها من غزة. القليل جداً من الاسرائيليين اهتموا بالرد عليهم بالمثل. الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، استطاع أن يحصل على كل ما يريد بعد أن جعل الإسرائيليين يشعرون بالأمان الاستراتيجي ولكن ليس الأمان الأخلاقي بشأن احتلال الإسرائيليين لأرضه.

من حق الإسرائيليين أن يتشككوا في أن بعض المقاطعين يستخدمون هذه القضية كغطاء لمعاداة السامية، نظرا للكيفية التي يعددون بها مثالب إسرائيل دون غيرها، ولكن هذا لا يعني أن تزرع إسرائيل 350 ألف مستوطن في الضفة الغربية، وتغض الطرف عن عشرات المستوطنات العشوائية التي يراها حتى إسرائيليين نفسهم «غير قانونية ».

إذا كانت إسرائيل تريد حقا إبطاء حملة المقاطعة، فينبغي عليها طالما كان كيري يحاول التوصل لاتفاق، وهناك أمل للنجاح، أن تعلن تجميدها لجميع النشاطات الاستيطانية لإعطاء السلام فرصة أفضل. وهذا من غير المحتمل كما أعتقد، ولكن ما أعلمه على وجه اليقين هو هذا الخذلان المستمر «وتكسير مجاديف» كيري من قبل وزراء إسرائيليين، ومطالبتهم بأن يوقف الفلسطينيون جميع «أشكال التحريض»، ولكن استمرار إسرائيل في بناء المستوطنات في أراضيهم لا يكسبها أصدقاء في أوروبا أو أميركا، وإنما مزيد من المقاطعة.

 

توماس فريدمان - صحافي ومحلل أميركي

 

تويتر