قضية «أرجينيكون» أضعفت المؤسسة العسكرية

أردوغان يصوغ تركيا مختلفة عن الأتاتوركية

أردوغان.. نهج جديد قوّض مسيرة أتاتورك. غيتي

بعد اختفاء الدولة العثمانية عقب انتهاء الحرب العالمية الاولى، عمل الزعيم مصطفى كمال اتاتورك، المعروف بالغازي، على إنشاء تركيا جديدة على طراز اوروبي. وبكل ما يتمتع به من صلاحيات واسعة ونفوذ، بما في ذلك امساكه بالسلطة العسكرية، عمل اتاتورك على تنفيذ رؤيته بفصل الدين عن الدولة والسياسة العامة والحكومة، كما ابلغ مواطنيه بانه يمكنهم اعتبار انفسهم غربيين.

وقد استغرق الامر قرناً من الزمان ليأتي حزب العدالة والتنمية ،2002 ويبدأ ثورة ديمقراطية رغم انه مكون من محافظين واسلاميين ذوي نزعات وتوجهات اصلاحية، ويباشر العمل على تصفية مبدأ «الكمالية الغربية»، والقائم على مسايرة الاتراك للغرب في كل شيء.

وباستقالة العديد من كبار قادة الجيش وضباطه خلال الشهر الماضي، فان آخر معاقل الكمالية ومؤسساتها ممثلة في القوات المسلحة التركية استسلمت لحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب اردوغان. وببساطة فان نهاية هذا الفصل التاريخي الطويل من الكمالية، تقول ان اردوغان هو «أتاتورك الجديد»، لتركيا، صحيح ان هناك فروقاً، لكنه يتمتع بنفوذ وقوة لا تقلان عما كان يتمتع بهما اتاتورك.

وحينما تحققت الديمقراطية القائمة على تعددية الاحزاب في تركيا عام ،1950 سعت احزاب عدة، وعلى مدى عقود للحفاظ، على ارث اتاتورك ومكانته التاريخية في ظل الحراسة المستمرة من القوات المسلحة للنظام، ومع استمرار وتيرة الخمول بعيدا عن الروح التقدمية اصيبت الكمالية بالركود لتتحول مع الايام الى ايديولوجية للحفاظ على الماضي، وبالنسبة للاجيال الجديدة التي نشأت في تركيا خلال العقود الماضية، فان اهم علامات هذه الايديولوجية كان ظهور عدد كبير من نصب وتماثيل اتاتورك في كل مدينة وساحة وبلدة.

وجاء الانقلاب العسكري 1980 لينهي حالة الفوضى في الشارع، ويعطي تركيا دستورها التقييدي العسكري المتشدد. ومع العودة باتاتورك الى ثقافة عبادة الافراد ضمن الجنرالات ان الكمالية قد ماتت وانتهت الى غير رجعة.

وبعد عودة تركيا الى الديمقراطية فشلت الاحزاب السياسية التي تتداول السلطة في طرح افكار ومقترحات للتغيير، فانتهزت الاحزاب الاسلامية الفرصة لبناء شبكات شعبية واسعة من العلاقات ذات نظرة تقدمية لتركيا تقوم على امتزاج منسجم بين الدين والدولة والحكومة والسياسة العامة، وابراز الهوية الاسلامية لتركيا في السياسة الخارجية.

وحينما انفرط عقد احزاب يمين الوسط، واصابها الوهن والعجز، بسبب التفاقمات المتزايدة للازمة الاقتصادية عامي 2000-،2001 نظمت القوى والاحزاب الاسلامية صفوفها وتحدثت بصوت معتدل لاجتذاب الناخبين.

وتمكن حزب العدالة والتنمية المزدهر والمتدفق حيوية من استقطابهم والفوز بالسلطة ليباشر عملية تغيير كبيرة، متسلحا بالتاييد الشعبي لتعيش تركيا في ظله عقداً من الاستقرار والنمو الاقتصادي. ونجح هذا الحزب ايضا في تقديم نفسه للشعب التركي على انه النخبة الجديدة القادرة على التغيير، ليحل تدريجيا محل « القوة الكمالية »، في وسائل الاعلام واوساط المجتمع المدني واتحادات العمال والطلاب والنقابات المختلفة. وبعد التعديلات الدستورية الاخيرة التي تم اقرارها العام الماضي تمكن حزب العدالة والتنمية من الوصول الى المحاكم العليا والسيطرة عليها.

وكان الجيش هو الحصن الاخير المتبقي للكمالية، ولكن قضية «ارجينيكون»، التي مازالت مطروحة امام المحاكم منذ عام ،2007 فتحت هذا الحصن امام اردوغان وحزبه، بعد التحقيقات التي اظهرت تورط عدد من كبار الضباط في مؤامرة للانقلاب على السلطة والديمقراطية، مما اضعف نفوذ القوات المسلحة وتأثيرها في الساحة. كما تعرض الجيش للانتقادات اللاذعة بعد التحقيقات التي اثبتت تورطه في التخطيط لانقلاب شامل على النظام السياسي الديمقراطي في البلاد، وتفجير المساجد التاريخية في اسطنبول لاغراق البلاد في ازمة سياسية.

وبدت تاثيرات كل هذا واضحة في تآكل الثقة في الجيش كأقوى وافضل مؤسسة في البلاد. ففي عام 1996 قال 94٪ من الاتراك في عملية مسح دولية للرأي، إنهم يثقون بشكل مطلق في جيشهم، بينما انخفضت نسبة اصحاب هذا الراي الى 75٪ في استطلاع جديد اجرته الجهة التي قامت بالمسح الاول في وقت سابق من هذا العام. ويمكن القول إن حزب العدالة والتنمية اصبح الصفوة الجديدة المسيطرة والتي تقود عملية التغيير والبناء، بل تقود عملية اعادة رسم تركيا وتشكيلها. وكما نجح أتاتورك في صهر تركيا في بوتقة العلمانية ورسم صورة غربية لها، تمكن اردوغان من اعادة تشكيلها على النحو الذي يريده بما ينسجم مع التصور الموجود في ذهنه لدولة محافظة اجتماعياً بهوية اسلامية واضحة.

وهذا يعني محلياً تشكيلة حكومة تشجع التوجهات المحافظة بارادة ورغبة شعبية.

وفي «تركيا الاردوغانية» يبدو الخط مزيجاً او متوسطاً بين الاخلاقيات العامة والقيم الدينية، ما يجعل القوة الشعبية التي تتمتع بها الحكومة من المعارضة امراً مستحيلاً.

وفي السياسة الخارجية تبدو تركيا مقتنعة ومكتفية بهويتها الاسلامية الواضحة، وسوف تكف عن اعتبار نفسها دولة غربية بالحدس، لاسيما بعد اعادة تعريف الغرب سياسياً لمفهوم العالم الاسلامي، والتغير السلبي الذي طرأ على تفكيره بشأنه، بعد احداث سبتمبر ،2001 ما يعني زيادة التوتر في علاقات تركيا مع شركائها في حلف شمال الاطلسي، كما يعني ايضا ان تركيا ستنفتح على جميع الابواب والاتجاهات غير الغربية، مثل روسيا والصين، وما قرار اردوغان وحكومته أخيراً بشراء اسلحة روسية، ودعوته الصين للمشاركة في مناورات وتدريبات بحرية مع القوات والاساطيل التركية في البحر المتوسط الا أدلة واضحة على تلك التوجهات غير الغربية للسياسة الخارجية التركية.

وختاماً فانه على امتداد قرن سايرت تركيا اتاتورك، واستمرت في السير على نهجه بسبب نجاح ورثته السياسيين في الحفاظ على السلطة والنفوذ. والآن حان دور اردوغان الذي يتمتع برؤية واضحة ومحددة المعالم وحاسمة، ويمسك بزمام القوة وبكل مستويات النفوذ، بما فيها التاثير الشعبي. وسيبدي لنا الزمن الى أي حد والى أي عمق سيستطيع هذا الرجل اعادة تتشكيل تركيا في صورتها الجديدة.

سونر كاجابتي  باحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والمقال منشور في «واشنطن بوست»

 

تويتر