صناعة التعدين.. خبز على حافة الموت (2 - 2)

ضحايا المناجم بدءاً من أميركا الـرأسمالية وصولاً إلى الصــين الشيـوعية

على الرغم من التقنية الحديثة فإن العمل في المناجم لايزال يحمل المخاطر نفسها. غيتي

المحنة التي عاشها 33 عاملاً في مناجم تشيلي محبوسين في منجم على عمق نصف ميل في باطن الارض، ولمدة 69 يوماً، لفتت أنظار العالم إلى ظروف العمل السيئة التي يتعرض لها عمال المناجم في جميع أنحاء العالم، وانعدام الحد الادنى من السلامة، لاسيما في بلدان مثل الصين وبعض دول العالم الثالث، حيث تصل حوادث الوفيات في المناجم الى أرقام محرجة.

كوارث في الصين

الصين التي تعتبر من اكبر منتجي الفحم الحجري في العالم، تعتمد على هذه المادة في 70٪ من احتياجاتها لتوليد الطاقة. وتعتبر ظروف السلامة السيئة والادارة المتسيبة، وانعدام الضغوط الحكومية، كل هذه العوامل تسهم في كتابة اسوأ سجل لحوادث التعدين في هذه البلاد. ووفقا لإحصاءات حكومية، لقي العام الماضي 6995 عامل منجم حتفه في مناجم متعددة في الصين، جراء انفجار وانهيار الدعامات داخل المناجم، وغُمر المناجم بالمياه. ومع بداية هذا العام ارتفعت الحوادث المميتة في المناجم بنسبة 10.3٪، مقارنة بالعام الماضي، لتسجل 1630 وفاة.

وتقدر منظمة العمل الدولية أن 11.1 من كل 100 ألف عامل صيني يموتون سنوياً جراء الحوادث الصناعية، مقارنة بالولايات المتحدة التي يصل فيها عدد الحوادث المشابهة الى 2.19 لكل 100 ألف عامل.

ويعتقد خبراء ان الارقام الرسمية عن حوادث المناجم في الصين يجانبها الصواب دائماً، نظراً لان نصف عمال المناجم يعملون في مناجم صغيرة تديرها الحكومات المحلية، التي تعمد في كثير من الاحيان الى تحريف الارقام الرسمية. وتشير تقديرات عالمية مؤكدة إلى أن 10 آلاف عامل منجم يلقون حتفهم داخل مناجم صينية سنوياً. وفشلت الجهود الرسمية الرامية الى إغلاق العديد من المناجم الخاصة، التي تنعدم فيها ابسط تدابير السلامة، مثل اجهزة اطفاء الحرائق. وعلى الرغم من اغلاق الحكومة العديد من مثل هذه المناجم، فإنها سرعان ما تعود للعمل من جديد في كثير من الاحيان، بالتعاون مع مسؤولين محليين، يرضخون للرشى.

تاريخ استعماري

خلال اوائل القرن الثامن عشر استهلكت شركات التعدين معظم الفحم الحجري الموجود قريباً من سطح الارض، واصبح من الضروري التنقيب بعيداً في بعض الاحيان في باطن الارض للحصول على كميات كبيرة من الفحم على بعد كيلومترين، وفي الوقت الذي بدأت فيه شركات التعدين في بريطانيا الاستعمارية في التوسع، اتجه الحفر الى مسافات ابعد في باطن الارض، واصبح العمال يعملون ساعات طويلة تحت ظروف صعبة للغاية وخطرة. وخلال تلك الايام كان يتم استخراج الفحم بطرق بدائية، وكانت عوائل بأكملها تعمل في المنجم الواحد. وفي مناجم كان يتم رفع الفحم والعمال بزكائب خشبية، وفي بعض الاحيان يتم سحب العمال الى خارج المنجم بربطهم بحبل، وربما لقي بعض العمال حتفهم جراء انقطاع الحبل.

ومع مرور الوقت وازدياد الحوادث تشكلت لجان للتقصي في وضع عمال المناجم. ففي عام 1842 اكتشفت لجنة برلمانية ان معظم عمال المناجم يعملون في وضع مزرٍ وساعات طويلة، وان ادارات المناجم تستأجر فتية صغاراً جداً للعمل لديها، تبلغ اعمارهم في بعض الاحيان خمس سنوات، إذ يعملون لما يصل الى 12 ساعة في اليوم، يفتحون الابواب ويجرون العربات المحملة بالفحم، ويعمل هؤلاء الاطفال في المناجم في الظلام، لان اسرهم من الفقر بمكان، بحيث لا تستطيع ان توفر لهم شموعاً للإضاءة. كما علمت اللجنة ان فتيات في عمر 13 عاماً يعملن في تلك المناجم، وان كثيراً منهم يعانين الاصابة في اعمدتهن الفقرية، إذ يتوقف نموهن او تتقوس ظهورهن وهن في تلك السن.

ومع مرور الوقت تحسنت الظروف، بفضل الاحتجاجات الجماهيرية والضغوط السياسية والتغييرات التي حدثت في القوانين. وبنهاية القرن التاسع عشر تحسنت الظروف كثيراً، ولم يكن ذلك ممكناً الا بضغوط العمال انفسهم، الذين كانوا يتجمعون للاحتجاج على ظروفهم السيئة، ويشكلون مجموعات عُرفت في ما بعد بالنقابات.

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/311497.jpg

قط وفأر في أميركا

وليس الحال بأفضل حتى في أميركا نفسها، إذ إن بعض شركات المناجم تجبر عمالها على الإدلاء ببيانات مغلوطة عن الوضع في المنجم للمفتشين الفيدراليين الذين ينظمون زيارات مفاجئة للمناجم، وذلك لكي تفلت هذه الشركات من العقوبات والغرامات المتوقع أن يفرضها عليها هؤلاء المفتشون، وهو الاسلوب غير القانوني الذي ظل سائداً منذ انفجار منجم ويست فيرجينيا في ابريل الماضي، الذي قضى على 29 عاملا. ويقول مدير ادارة سلامة وصحة المناجم، جو مين «إننا ننظر في هذه الحالات كمشكلة مزمنة تحتاج منا الى حل، إذ اننا عثرنا على بعض الدلائل التي تتطلب منا إعمال القانون لمنع مثل هذه التعليمات المسبقة». وجاءت هذه التصريحات بعد أن وزعت إدارة السلامة وصحة المناجم كتيباً إرشادياً على جميع المناجم في البلاد، توضح لهم فيه عدم قانونية تلقين العمال ما سيقولونه للمفتشين الفيدراليين قبيل الزيارات التفتيشية. وكانت الحكومة الاميركية قد صعّدت من وتيرة مثل هذه الزيارات التفتيشية المفاجئة للمناجم في جميع انحاء البلاد، بعد كارثة منجم فيرجينيا.

هذه التعليمات التي توجهها ادارات المناجم لعمالها قبيل الزيارات التفتيشية تفسح المجال امام العمال لإخفاء الاشياء المخلة بالسلامة في المنجم خلال الوقت الذي يستغرقه المفتشون في طريقهم من المكاتب الرئيسية فوق سطح الارض، قاطعين آلاف الاقدام نحو المواقع تحت الارض. وكانت إدارة السلامة وصحة المناجم قد أصدرت 28 إنذاراً لمناجم بسبب تلك التعليمات التي تصدرها لعمالها. ولمعالجة هذه المشكلة اتخذت ادارة السلامة وصحة المناجم تكتيكات اكثر صرامة، مثل مصادرة الهواتف النقالة بمجرد دخول المفتشين الى مكاتب شركات المناجم، او استغلال سيارات لا تستطيع ادارة المناجم تمييزها، بيد أن هذه المناورات اصبحت أشبه بما يعرف بلعبة القط والفأر، إذ بدأت إدارات المناجم في تنظيم مراكز مراقبة أو استخدام الاشعة تحت الحمراء للتنبيه بقدوم المفتشين لدى دخولهم اراضي المنجم. ويقول مساعد مدير المنطقة بالانابة في ادارة السلامة وصحة المناجم، ايدي سباركس «في بعض هذه المناجم هناك طريق ترابي فقط يؤدي اليها، حيث تستطيع الادارة رؤيتك من بعيد»، ويضيف «كما ان بعض سائقي شاحنات نقل الفحم يمكنهم رؤيتك خلال اتجاهك نحو هذه المناجم ويخبرون في الحال مرؤوسيهم عبر الراديو قبل وصولك إلى المنجم».

مآسٍ في جنوب إفريقيا

شهد التعدين في جنوب إفريقيا تاريخاً مضطرباً، ففي أثناء حقبة التمييز العنصري، كان عمال المناجم السود يجبرون على العمل في ظروف خطرة مقابل أجور أقل بكثير مما كان يحصل عليها زملاؤهم من العمال «البيض»، وقد بُذلت جهود للتصدي لهذا النوع من التمييز، إلى أن زادت حصة هذه الفئة المحرومة من عمال المناجم السود في مجال صناعة التعدين.

واتسم هذا النشاط الصناعي بتأثيره الثقافي الكبير، وليس أدل على ذلك من رقصات الجمبوت (ويلينغتون) أو رقصة عمال المناجم، حيث استخدمت هذه الرقصات بوصفها شكلاً من أشكال الاتصال في المناجم، وكان العمال يؤدونها بالضرب على الحذاء العالي «البوت»، مع قعقعة السلاسل المربوطة في الكاحل، ليؤلفا معاً نغمات إيقاعية جميلة، وكانت الأغاني جميعها من أمثال أغنية شوشولوزا وستيملا، التي تدور حول رحلات العمال المهاجرين الطويلة في القطار وهم في طريقهم إلى المناجم.

تويتر