مساجد.. ومعارك (5-5)

مسجد كولونيا المركزي.. جسر بين الماضي والمستقبل

موقع المسجد وارتفاع مئذنتيه أثارا غضب السكان المحليين قبل انتهاء الأعمال فيه. ويكيبيديا

بسبب تصاعد موجات اليمين المتطرف في العالم ، تحول بناء ووجود المساجد والمآذن في مواقع مختلفة إلى مجال لمعارك واسعة بين جماعات مسلمة ومتعاطفين معها، من قوى ديمقراطية ومستنيرة من جهة، وجماعات متعصبة من جهة أخرى.

وعلى عكس ما استهدف خصوم الحرية، تمكن المعسكر الأول ليس فقط من الانتصار لحقه في الاعتقاد والعبادة، بل قرن ذلك بتقديم صورة مشرقة للإسلام، تنتصر له ضد محاولات تقديمه بصورة سلبية.

يعبر كثير من الأوروبيين عن مخاوفهم من انتشار الإسلام في بلادهم، وتزايد عدد المساجد في مدنهم، في الوقت الذي تطالب فيه الأقليات المسلمة بحقوقها المدنية والدينية، وتقول إن الوقت قد حان للخروج من العزلة، وممارسة شعائرها بكل حرية وأمام الجميع. ويبدو أن مدينة كولونيا ستكون على موعد مع التاريخ هذا العام، من خلال تدشين أكبر مسجد لها في ألمانيا، وكما حدث في مرسيليا ومدريد وغيرهما من المدن، فقد لاقى المشروع معارضة كبيرة وأثار جدلا سياسيا واجتماعيا لايزال قائما إلى الآن، يذكر أن المدينة تحتضن أكبر كاتدرائية في العالم، بنيت في القرون الوسطى، وكانت تعتبر قلب أوروبا الكاثوليكية آنذاك.

بدأت مناقشة المشروع في ،2001 وتم تأجيله عقب هجمات نيويورك، وركز المعارضون على الضوضاء وأماكن انتظار السيارات والتأثير المحتمل في أسعار الأراضي إذا ما بني المسجد، والاضطراب الذي سينشأ في التركيبة السكانية، فضلا عن القلق من تزايد عدد المسلمين في المدينة، ويبلغ عدد المسلمين في كولونيا أكثر من 120 ألف نسمة، لتكون بذلك أكبر جالية في البلاد. وبحلول عام 2020 من المتوقع أن يكون ثلثا سكان كولونيا من أصول أجنبية، تركية في معظمها، ويسع المسجد الكبير نحو 2000 مصلٍ وبكلفة 40 مليون دولار. ويقول الكاتب الألماني كلاوس ليغوي، مؤلف كتاب «مساجد في ألمانيا.. بيوت عبادة وتحديات مجتمعية»، إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد نمت حفنة من 10 مساجد لتصير 164 مسجدا، وهناك ما يقارب 200 أخرى تحت الإنشاء في أنحاء ألمانيا، وبحلول عام 2020 من المتوقع أن يكون ثلثا سكان كولونيا من أصول أجنبية، وتركية في معظمها.

أمر مقبول

أثار موقع المسجد وارتفاع مئذنتيه غضب السكان المحليين، وتظاهر محتجون أمام المسجد قبل انتهاء الأعمال فيه، ما جعل آلاف المؤيدين يتظاهرون ضدهم. ويؤكد خبراء ألمان أن المساجد أصبحت مقبولة كجزء من وضع ألمانيا الطبيعي، حيث يكفل الدستور الألماني حق العبادة لكل المواطنين، ووافق مجلس مدينة كولونيا على بناء المسجد، بالأغلبية بعد نقاش طويل وشاق، وأشرفت الجالية التركية المسلمة على تنفيذ المشروع، ويبلغ ارتفاع المئذنتين 55 مترا. وتعارض الأحزاب اليمينية بناء المزيد من المساجد في ألمانيا، وتقول إنها تخشى على مستقبل ألمانيا المسيحية، ونفوذ الإسلام في البلاد. ويشكل المسلمون 12٪ من عدد سكان كولونيا. وفي المقابل قامت كنيسة ألمانية بإطلاق حملة جمع أموال، في مارس ،2007 للإسهام في بناء المسجد الكبير، لتكون خطوة غير مسبوقة في تاريخ ألمانيا، داعية للتبرع من أجل تقديم هدية رمزية للمواطنين المسلمين.

ينتمي المسلمون في كولونيا إلى أصول تركية في الأغلب، وقد جاء الجيل الأول في الستينات من القرن الماضي للعمل المؤقت في قطاع الإنشاءات المزدهر آنذاك، حيث تعرضت البلاد لدمار هائل في الحرب العالمية الثانية، إلا أن العمال بقوا في ألمانيا واستقروا فيها وأنشأوا جمعيات ومنظمات في ما بعد، وأصبحوا يسهمون بشكل فعال في الاقتصاد الوطني، ولم يصبح آلاف المسلمين مقتنعين بممارسة شعائرهم الدينية في قاعات صغيرة في المعامل والمجمعات، والساحات الخلفية والأقبية، وقرروا الخروج إلى العلن وبناء أماكن عبادة خاصة بهم. ويقول دنيز ديمرز، الذي يعمل في مجال الترجمة، «إذا صلينا في أماكن مخفية فإن الكل سيخاف منا». ومن جهته يعتقد الأستاذ في جامعة غيسن، ليجي وي، أن المساجد تبين الثقة بالنفس عند المسلمين المهاجرين إلى أوروبا. ويضيف الباحث، السلوك السائد عند مسلمي أوروبا الآن هو «نحن نبني لأننا نريد البقاء»، إلا أن حزب «من أجل كولونيا» اليميني المتطرف يرى غير ذلك، فقد عبرت قيادته عن قلقها من أسلمة المدينة الكاثوليكية. ويتساءل الكاتب المسرحي، نافيد كارماني عن الطريقة التي يجب أن يدار بها الصراع السياسي في ألمانيا، قائلا إن الصراعات حاضرة في أي مجتمع متعدد الثقافات، لكن هل سيلجأ الناس إلى العنف أم يناقشون المسائل في العلن؟ وفي الوقت الذي شهدت فيه مدن، مثل هانوفر وبرلين، جدلا حادا حول بناء المساجد وارتفاع المنارات، توصل شركاء سياسيون واجتماعيون في مدن أخرى إلى حلول وسطية.

تحفة معمارية

أشرفت رابطة المسلمين الألمانية على بناء المسجد الذي صُمم على الطراز العثماني، بجدران زجاجية، ومئذنتين وقبة، كما يضم المسجد سوقا فيها عدد من المحال، ويتكلف بناؤه نحو 40 مليون دولار على مساحة 20 ألف متر مربع. وأشرف على تصميمه المهندس المعماري الالماني بول بوم، المتخصص في بناء المباني الدينية، ويساوي ارتفاع المآذن ثلث ارتفاع أبراج كاتدرائية كولونيا. وسيكون المسجد محاطا بمبان عالية تحتوي على مكاتب، كما وافق الاتحاد الإسلامي في ألمانيا على عدم إذاعة أذان الصلاة عبر مكبرات الصوت. ويعتقد مراقبون أن المسجد الجديد سيكون تحفة معمارية تجعل الناس يتجهون إليه لمشاهدته بعد زيارة الكاتدرائية. وتقول العضوة في الاتحاد عائشة آيدين إن هذا النموذج يشتمل على ما لم تشتمل عليه التصميمات الأخرى للمسجد، التي كانت قد أثارت الكثير من الجدل. موضحة أنه يشتمل على بناء واضح جدا يدل على أن المسجد «سيكون منفتحا، وشفافا، ومشوقا لزيارته، وليس منغلقا». وأضافت أنه لهذا قرر الاتحاد اختيار التصميم الذي وضعه المهندسان المعماريان الألمانيان باول بوم وابنه غوتفريد، إذ إنه يحمل إلى الجميع فكرة الدعوة إلى زيارة المسجد، والتي تتمثل في أنه يشتمل على عناصر كثيرة تحث الآخرين على زيارته دون خوف.

معارضة

جمع سكان كولونيا أكثر من 7000 توقيع معارض لبناء المسجد الكبير، ووقف الحزب الكاثوليكي الديمقراطي الحاكم ضد الفكرة، إضافة إلى شخصيات دينية و إعلامية، كما شهدت شوارع المدينة تظاهرات ضد إقامة المسجد ترافقت أحياناً مع أعمال عنف على غير العادة، بسبب ما قال عنه البعض إنه التخوف من بدأ ظهور الأثر الإسلامي والتركي بالتحديد على جوانب المدينة، وهي التي تعتز بشخصيتها المسيحية باحتضانها كاتدرائية الدوم الأكبر في أوروبا، كما أن إحدى الحملات الصليبية جهزت وانطلقت من المدينة.

 

تبريرات

تعتبر الجالية المسلمة في ألمانيا أكبر طائفة بعد المسيحية، حيث أخذ ينمو عدد أفرادها بشكل ملحوظ منذ عام ،1970 حتى أصبح عددهم يقدر الآن بأكثر من 3.7 ملايين نسمة. وتتعدد أسباب رفض مجالس البلديات مشروعات بناء المساجد، فالرافضون يدافعون عن قرارهم من خلال قائمة عريضة من التعليلات، مثل عدم توافر أماكن انتظار مخصصة لسيارات المصلين، ووجوب الحفاظ على المساحات الخضراء في المدينة، والخوف من تأثير البنايات ذات الطابع الشرقي في شكل المدينة، فضلاً عن اتهام بعض الجمعيات الإسلامية بعدم احترام الدستور الألماني، ومن الصعب معرفة أي هذه الأسباب صحيح وأيها مجرد افتراء، ولكن اللافت أيضاً للنظر أنه لا يوجد موظف واحد بإدارات الحكم المحلي الألمانية يعترض على الحرية الدينية للمسلمين، أما عند رفض طلب الموافقة على بناء المساجد، يسمع المسلمون أحياناً عبارات على غرار «ليس في هذا الحي من فضلكم»، أو «لا يمكن أن تكون مئذنة المسجد بهذا الحجم الضخم»، أو «طلبكم مرفوض لأن الجيران سيشتكون الضوضاء».

وأكد رئيس الاتحاد الإسلامي التركي في ألمانيا شادي أرسلان، أن هذا المسجد سيكون «جسرا بين الماضي والمستقبل»، واستثمارا من أجل المستقبل المشترك، كما أعرب كل من رئيس الكنيسة البروتستانتية في كولونيا، رولف دومينغ، وأسقف الكنيسة الكاثوليكية، راينر فيشر، والمتحدث باسم الطائفة اليهودية في كولونيا أبراهام ليرار، عن أن وضع حجر أساس مبنى المسجد، هو في الوقت نفسه وضع حجر الأساس لحياة سلمية مشتركة بين الجميع في ألمانيا.

 

 

 

 

تويتر