غزة.. هدوء بعد العاصفة

الآثار الكارثية المخيفة للعدوان على غزة تستدعي الإسراع في تقديم المساعدات الإنسانية ومساعدة المشردين الذين دُمرت بيوتهم. أ.ب.أ

إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار من جانب واحد في قطاع غزة موضع ترحيب، لكنه يبقي على كثير من الأسئلة الأساسية حول مستقبل القطاع عالقة او مفتوحة على احتمالات عدة، وجاء هذا الإعلان الإسرائيلي الأحادي الجانب بعد 22 يوما من بدء ما اسمته تل ابيب «الرصاص المسكوب»، ودخل حيز التنفيذ مساء الأحد الماضي ليلقى ترحيبا كبيرا، خصوصاً من المدنيين في القطاع، حيث اعتبروه فسحة لالتقاط الأنفاس. وتقف عوامل عدة وراء هذه الخطوة، ومنها ما يتعلق بالطرفين المتحاربين والدول المجاورة ومؤيدي كل طرف. وستقرر تحركات هذه الأطراف جميها ما إذا كان وقف اطلاق النار هذا سيفضي فعلا الى تقليص وانهاء الكراهية والعداء لما وصف بالبداية الدموية المريعة لعام 2009 .

لا يمكن القول إن هذا الإعلان الإسرائيلي من جانب واحد جاء هكذا مصادفة او عرضيا، فإسرائيل كانت تأمل منه في توجيه رسالة بان حركة المقاومة الإسلامية «حماس» ليست طرفا شرعيا. ولما جاء هذا الإعلان متزامنا مع مذكرة التفاهم التي وقعتها إسرائيل والولايات المتحدة حول التعاون والتنسيق لمنع تهريب الأسلحة الى غزة فستمضي إسرائيل في محاولاتها لعزل حكومة «حماس» في غزة بما يخدم مسار الحملة الانتخابية للائتلاف الإسرائيلي الحاكم، ولكن اذا لم تحصل حركة حماس على بعض المكاسب السياسية فلن يكون لديها الدافع للحفاظ على الهدوء، فهي القوة المسيطرة في القطاع. وفي ظل غياب جهود لتوجيه الطرفين المتحاربين في هذه الفترة العصيبة نحو تعزيز وقف اطلاق النار فإن الأعمال العدائية ستستمر ولو كانت متفرقة، ما يعني عدم ابتعاد خطر التصعيد.

وتتمثل الحاجة الملحة لقطاع غزة في تقديم المساعدات الانسانية الكبيرة لاسعاف الجرحى ومساعدة المشردين الذين دمرت بيوتهم وتأمين المساكن لهم والتعامل الفوري والمكثف مع الازمة الصحية القائمة، وقد يُتوفى عدد كبير من الجرحى خلال الايام القليلة المقبلة ما لم يتلقوا العلاج العاجل والرعاية الصحية اللازمة على الفور. ويحتاج المجتمع الدولي الى التعاطي مع هذه المسألة كأولوية مطلقة، وإلا فإن عدد الشهداء سيرتفع على الرغم من توقف العمليات العسكرية.

كما ستظهر في وقت مبكر للغاية مسألة من يحكم في غزة ومن هو الطرف الذي يتلقى المساعدات الانسانية ويتولى ادارتها وتوزيعها، في ظل الصعوبات الكبيرة الناجمة عن الدمار الهائل الذي لحق بالمؤسسات ومرافق البنية التحتية الفلسطينية في القطاع، حيث لم يسلم او يتبق شيء من الوزارات والمباني العامة ومراكز الشرطة والسجون والمستشفيات، ويمكن إعادة إعمار معظم هذه المرافق وليس كلها من خلال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الاونروا» وغيرها من وكالات الامم المتحدة. وتبقى الحقيقة قائمة وهي ان اي جهد لإعادة الحياة الى القطاع واعماره لابد وان يمر من خلال حركة «حماس».

وعلى الرغم من الجدل الدائر حولها حصلت «حماس» على اعتراف واقعي واسع منذ توليها زمام الامور في القطاع من خلال حكومة مركزية فاعلة، نجحت في فرض القانون والنظام العام، وحافظت على الالتزام بوقف اطلاق النار قبل العدوان الاخير. وتقاطع الاعتراف بواقع تمثله وتديره حركة حماس مع محاولات القضاء عليها وتنحيتها بالقوة. واذا ما استمر الغرب في سياسته الحالية فسيحاول استخدام المساعدات لإعادة الإعمار كأداة خفية لتغيير النظام القائم في القطاع. وللسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض دور في إعادة البناء ولكن من خلال جهود جادة لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة او من خلال مواصلة سياسة اثبتت فشلها. وهناك حاجة على ما يبدو للعمل بنصائح الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الاسرائيلي «الموساد»، افرايم هاليفي، وعدد من اصدقاء اسرائيل مثل وزير الخارجية الاميركي السابق كولن باول، والمبعوث الاميركي السابق الى الشرق الاوسط انطوني زيني، والبرلماني البريطاني جيريمي غرينستوك وغيرهم بضرورة ايجاد طرق غير مباشرة للاتصال بحركة حماس واشراكها في العملية السلمية، وتشجيع جهود توحيد الفلسطينيين، وقد تكون احدى هذه الطرق تقديم صفقة كبيرة وشاملة من المساعدات للضفة الغربية وقطاع غزة.

ويوفر الوقت الحالي على ما يبدو الفرصة المناسبة لإصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني، بعد أن اعترى القيادة الحالية لحركة «فتح» ضعف واضح في عيون كثير من الفلسطينيين، بسبب الموقف الذي ظهرت من خلاله امام شعبها والعرب والعالم وكأنه ليست لها صلة بما كان يحدث في غزة في الاسابيع الاخيرة. وفي الواقع كانت هناك اصوات مهمة ينبغي الاستماع اليها داخل «فتح» مثل امين سرها الاسير في السجون الاسرائيلية مروان البرغوثي وعضوها البارز قدورة فارس والرئيس السابق لجهاز الامن جبريل الرجوب، بل كان هناك بيان من مختلف القوى البرلمانية الفلسطينية ينتقد كيفية تعامل السلطة مع التظاهرات واتجاهات المعارضة في الضفة الغربية. فهل ستوظف حركة «فتح» هذه اللحظات لتشكيل حكومة وحدة وطنية ام ان مؤيديها يرون هذه الايام فرصة ليحلّوا مكان حماس ووراثتها سياسيا؟

من جانبها فإن لحماس حساباتها الداخلية ايضا، فقد اصبحت حركة سياسية اكثر قوة، على الرغم من إضعافها عسكريا، ولكن هناك تساؤلات صعبة لا بد من الاجابة عنها، وقضايا لابد من التعاطي معها، خصوصا في ما يتعلق بالاطراف التي يتعين عليها مشاركتها المسؤولية في تحمل نتائج ما تعرض له القطاع أخيرا. ولن تكون مفاجئة اذا ما انخرطت «حماس» في سلسلة مشاورات وإعادة نظر في تغييرات مهمة في قيادتها خلال الاشهر المقبلة.

وكما تنهمك اسرائيل في اوضاعها السياسية الداخلية كذلك سيفعل الفلسطينيون لإعادة ترتيب بيتهم، والاستفادة من واحدة من احدى الفرص القليلة المتبقية أمامهم لتحقيق وحدة داخلية ورمي خلافاتهم خلف ظهورهم. وقد تعمل الاصوات والقوى المستقلة في «فتح» و«حماس» وغيرها مثل مصطفى البرغوثي وحزبه المبادرة الوطنية وقيادات المجتمع المدني وفاعلياته على استغلال الظروف الحالية للعب دور حيوي رائد في هذا الاتجاه، وهذا قد يساعد الجهود الاميركية لاحياء عملية السلام في الشرق الاوسط. وقد انخرطت الحكومة الاسرائيلية في عملية مطولة لشرح اسباب الهجوم الاخير على غزة للناخبين الاسرائيليين، ومحاولة اقناعهم بانه كان ناجحا وحقق الغرض المطلوب، واعدت سلسلة من التقارير عن انهيار حركة حماس وضعف أدائها وعن التأييد والتفهم الاقليمي والدولي لما كانت تقوم به اسرائيل في القطاع، لأنه لا يمكن تصور ان يكون ما تعرض له القطاع منفصلا تماما عن حملة الانتخابات الاسرائيلية التي توقفت اجباريا طوال عملية «الرصاص المسكوب»، ولا شك في ان النتائج الانتخابية لتلك العملية ستصب مباشرة في مصلحة قوتين متنافستين الاولى حزب العمل بقيادة وزير الحرب ايهود باراك والثانية حزب كاديما بقيادة وزيرة الخارجية تسيبي ليفني التي يمكنها الآن ان تزعم ان جهودها الدبلوماسية كانت ناجحة، وانها اثمرت هذا الانتصار وان وقف اطلاق النار تم دون الاتصال بحركة حماس او التفاوض معها، بينما سيزعم باراك من جانبه وبدرجة لا تقل قوة ان الجيش الاسرائيلي حقق انتصارا عسكريا واضحا لا لبس فيه. وفي سبيل الفوز في الانتخابات المقررة في 10 فبراير المقبل سيوجه كل منهما رسالة واضحة في حملته الانتخابية تقوم على التقليل من شأن «حماس» وقوتها والنجاح الاسرائيلي في تقليص التهديد الذي تمثله قوتها الصاروخية، والزعم ان الخسائر الاسرائيلية كانت اقل ما يمكن، من دون الاشارة من بعيد او قريب الى حجم ما خسرته اسرائيل من تفهم حلفائها وتعاطفهم بسبب الآثار الكارثية المخيفة للعملية، لكن باراك وليفني سيواجهان حملة انتقاد من اليمين الإسرائيلي الذي سيجادل بان الجيش الإسرائيلي لم يذهب بعيدا وانه لم يتم السماح له بانهاء مهمته وانه كان يتوجب عليه اعادة احتلال القطاع والقضاء تماما على حركة حماس التي ظل عناصرها يطلقون الصواريخ حتى اليوم الأخير، وان الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت مازال أسيرا لديها بينما كان يتعين تحريره منذ وقت طويل.

أما اليسار الإسرائيلي فسيكتفي بانتقادات أقل واكثر لطفا، فهو وعلى الرغم من انتقاده للحرب على غزة من الناحية الأخلاقية إلا انه يرى انها لم تكن ضرورية وانه كان يمكن تحقيق اهدافها من غير عنف او قتال، وان الأوضاع عادت كما كانت عليه يوم 19 ديسمبر الماضي. واذا كانت تلك الحرب قد زادت من تقوية مركز باراك الانتخابي فإنها لم تعززه الى حد يمكنه من تحدي ليفني وزعيم الليكود بنيامين نتنياهو المتقدمين عليه في المعركة الإنتخابية.


ترجمة: عقل عبدالله عن «الغارديان»

تويتر