فيلم أم كلثوم ومأزق تمثيل العظماء في السينما

* باحث زائر في جامعة هارفارد

د. كمال عبدالملك*

ليست أم كلثوم مجرد مطربة عظيمة في الذاكرة العربية، بل كيان رمزي تشكّل عند تقاطع الفن والتاريخ والسياسة والوجدان الجمعي. ولهذا تحديداً، يتجاوز الجدل الدائر حول الفيلم الجديد عن سيرتها مسألة الأداء أو الاختيار الفني، ليصل إلى سؤال أعمق: كيف يمكن للسينما أن تمثّل «العظماء» دون أن تزعزع هالتهم، ودون أن تحوّلهم في الوقت نفسه إلى تماثيل صامتة بلا حياة؟

هذا التوتر ليس جديداً، فتمثيل الشخصيات الاستثنائية يضع الفن دائماً أمام معضلة مزدوجة: جمهور يتعامل مع الرمز بقدر من التقديس، وفن درامي لا يعيش إلا بالتفاصيل اليومية، وبالهشاشة الإنسانية، وبما هو عادي وملتبس في التجربة المعاشة. ولعل أسطورة بيغماليون تقدّم استعارة دقيقة لهذا المأزق: تمثال المرأة الجميلة في كماله الأخّاذ يثير الإعجاب من بعيد، لكن حين تتحوّل المرأة المثالية إلى امرأة حقيقية، مألوفة، تخطئ وتحب وتضجر وتأكل وتشرب، هنا يبدأ القلق.

في هذا السياق، تبدو قراءة الباحثة الأميركية فيرجينيا دانييلسون لأم كلثوم شديدة الدلالة. ففي كتابها المرجعي «صوت مصر: أم كلثوم، الغناء العربي، والمجتمع المصري في القرن العشرين» (1997)، لم تنزع عنها هالتها، لكنها لم تجمّدها أيضاً في صورة أسطورية. قدّمتها بوصفها مشروعاً فنياً واعياً بذاته، امرأة صنعت حضورها العام بحساب دقيق، ونجحت في التوفيق بين التقاليد الاجتماعية الصارمة ومتطلبات الحداثة الفنية والإعلامية. الأسطورة هنا لا تلغي الإنسانة، بل تُبنى عبرها.

من هنا، يمكن فهم الغضب الذي أثاره الفيلم الجديد. فالمشكلة، في جوهرها، ليست في «تجسيد» أم كلثوم كإنسانة، بل في الكيفية التي يُدار بها هذا التجسيد: هل يكشف الإنسانة ليضيء الأسطورة، أم يبتذل الرمز باسم الواقعية؟ وهل حقاً أن الألفة تُنجب الاحتقار، أم أن الخطر يكمن في معالجة سطحية تظن أن إنزال العظماء من عليائهم شرطٌ لتقديمهم للناس؟

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيه. 

تويتر