«الفطام الرقمي»

* باحث زائر في جامعة هارفارد

د. كمال عبدالملك*

مثل كثيرين في العالم، أجدني أقضي ساعات طويلة قبل النوم أقرأ وأكتب رسائل قصيرة على «فيسبوك» و«واتس أب»، وأردّ على رسائل إلكترونية واردة من أصدقاء ومؤسسات تعليمية ودور نشر. حاولت الاستغناء مؤقتاً عن هاتفي المحمول، ولكني فشلت.

لكن هذا الفشل الشخصي لا يعفي من التفكير، ولا من طرح السؤال الجوهري: ماذا تفعل بنا هذه الشاشات الصغيرة التي نحملها في جيوبنا، ونمنحها من أعمارنا ما لم نمنحه لكثير من بني البشر؟

تشير أبحاث حديثة صادرة عن جامعة هارفارد إلى أن «الانفصال المؤقّت» عن وسائل التواصل الاجتماعي، ولو لأسبوع واحد، يمكن أن يحدث فارقاً ملموساً في الصحة النفسية. فقد سجّل المشاركون في تجربة علمية دقيقة تراجعاً ملحوظاً في مستويات القلق والاكتئاب واضطرابات النوم.

غير أن المفارقة الكبرى التي تكشفها الدراسة المنشورة في «هارفارد غازيت» أن المشكلة ليست في «الشاشة» بحد ذاتها. فإجمالي وقت استخدام الهواتف لم ينخفض لدى المشاركين، بل انخفض استخدام وسائل التواصل تحديداً. أي إننا، حين نغادر منصات التواصل، لا نغادر العالم الرقمي، بل نعيد توزيع انتباهنا داخله، فالمسألة ليست انقطاعاً عن التكنولوجيا، بل إعادة تفاوض معها.

وتزداد الصورة تعقيداً حين نعلم أن استجابات الأفراد للانفصال لم تكن متشابهة، فبعضهم تحسّنت حالته النفسية، وبعضهم لم يشعر بفارق يُذكر، وآخرون وجدوا أنفسهم يعودون إلى الجسد والحركة والمشي والخروج من المنازل. وهنا الدرس الأهم: لا يوجد حل واحد يصلح للجميع.

ليس المطلوب أن نغلق هواتفنا ونلقي بها جانباً، بل أن نفهم: هل يؤذينا السهر؟ هل يسرق منا النوم؟ هل يعمّق الشعور بالعزلة بدل أن يخفّفه؟

وأعود إلى اعترافي الأول: نعم، مازلت مرتبطاً بهاتفي، ومازلت أؤجّل الفطام الرقمي الكامل، لكن الوعي هو الخطوة الأولى، وربما يكون الخطوة الأصعب. أما الخطوة التالية، فهي أن نمنح أنفسنا - ولو لأسبوع واحد - فرصة الصمت، لنرى ماذا تبقّى من أصواتنا الداخلية حين تخفت ضوضاء الإشعارات.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.

تويتر