شكسبير والألم الذي يولّد الإبداع

د. كمال عبدالملك*

قليلون في تاريخ الأدب العالمي نالوا ما ناله شكسبير من مجد، وأقلّ منهم تركوا وراءهم هذا القدر من الغموض، فعلى الرغم من عشرات المسرحيات ومئات القصائد، لم يخلّف لنا أثراً يكشف عن عالمه الداخلي أو ينير منابع حزنه ودهشته.

لكن ما نعرفه هو أنّه وُلد في ستراتفورد عام 1564، وتزوّج أغنِس هاثاواي، وأنجب ثلاثة أطفال، فيما عاش هو في لندن بعيداً عن أسرته.. ثم جاءت الفاجعة الكبرى بموت ابنه الوحيد هامنت، وهو في الـ11، لحظة ستظلّ، في نظر كثيرين، مفتاحاً لقراءة مسرحية «هاملت».

فيلم «هامنت» الجديد المقتبس عن رواية «ماغي أوفاريل» يعيد فتح هذا الجرح عبر سرد تخيلي يملأ فراغات السيرة. الرواية والفيلم يقدّمان صورة لعلاقة شكسبير بزوجته، ولحزنٍ لا يهدأ بعد رحيل الطفل. ويرى بعضهم أنّ أوفاريل نجحت في إحياء شخصية أغنِس الغامضة بلمسات رقيقة، وإن كانت رؤيتها لا تتوافق دائماً مع الوثائق، خصوصاً وصيّة شكسبير التي تخلو من أي حنان ظاهر. وتفترض الرواية أنّ موت هامنت كان بسبب الطاعون، وأن الحب الزوجي تعمّق بعد الفقد، وهي فرضيات تبقى أقرب إلى الخيال منها إلى التاريخ. لكنّ الرابط بين رحيل الطفل وولادة «هاملت» يظلّ أكثر ما يلفت الأنظار، خصوصاً أنّ اسمَي هامنت وهاملت كانا يُستعملان بالتبادل في سجلات ستراتفورد، وأنّ شكسبير كتب مسرحيته الأشهر بعد أربع سنوات فقط من الفاجعة.

عبقرية شكسبير وحدها هي التي منحت مسرحية «هاملت» تلك الأعماق النفسية العميقة، وهكذا يغدو السؤال عن حجم الألم الشخصي الذي يقف خلف هذا المجد الإبداعي سؤالاً مشروعاً كلما عاد القرّاء والمشاهدون إلى المسرحية أو الفيلم.

وإذا كانت المأساة الشكسبيرية تبدو ابنة تراث غربي محض، فإن المخيال العربي عرف بدوره سرديات تتجاوب مع روحها: كقصة الزير سالم وثأره لأخيه، وما في هذه السيرة من حيرة وجنون رمزي يقاربان تمزق هاملت. كذلك تبرز حكاية كليب وحرب البسوس مثالاً لموت فرد يشعل مأساة جماعية، وصور الرؤى والمنامات في المقامات والسير الشعبية التي تؤدي وظيفة الشبح الكاشف للحقيقة. وفي الأدب الحديث استعاد كتّاب مثل توفيق الحكيم وشعراء مثل السيّاب وأدونيس روح هاملت بوصفه رمز الإنسان الممزق بين الواجب والشك، بين صوت الذات وصوت العالم.

وهكذا تنفلتُ هاملت من أسوار الدراما الغربية، لتغوص في الطبقات السحيقة من الوجدان العالمي، وتظلّ - بعد أربعة قرون - شاهدة على أمومة الألم، وبنوة الإبداع.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.

تويتر