جزيرة العرب في المخيلة الغربية

د. كمال عبدالملك*

يمثّل كلٌّ من ولفريد ثسيجر (1910-2003) وريتشارد برتون (1821-1890) نموذجاً للمستكشف الغربي الذي شدّ الرحال إلى جزيرة العرب، لا بدافع الفضول وحده، بل بشغفٍ يلامس حافة الهوس، ورغبة في سبر عالمٍ كان في نظر الأوروبيين مغلقاً وساحراً. ومع أنّ الرجلين اجتمعا في المكان ذاته - صحراء العرب - إلا أنّ رحلة كل منهما كانت مختلفة تماماً عن الأخرى.

فثسيجر، الرحّالة الإنجليزي الهادئ، دخل الجزيرة العربية دخول العاشق لا الفاتح، مدفوعاً بشغف عميق بالطبيعة البِكر، وبالإنسان الذي يتشكّل على صورتها. عاش في الربع الخالي عيشة البدو، يأكل ممّا يأكلون، ويصبر على العطش والجوع كما يصبرون، ويرى في قسوة الصحراء جمالاً يطهّر الروح من شوائب الحضارة الحديثة. في كتابه Arabian Sands تبدو لغته أقرب إلى نشيد للمساحة اللانهائية، حيث الرمل ليس عدواً ولا فراغاً، بل فضاء تتجلّى فيه الحرية في أنقى صورها. كان ثسيجر، في جوهره، هارباً من عالم رأى أنه فقد براءته، فجاء إلى الجزيرة طلباً لطمأنينة لا يجدها إلا بين قوم يعيشون على بساطة الضرورة والاكتفاء، لا على تعقيد الرفاهية والإسراف.

أمّا ريتشارد برتون فكان شيئاً آخر، كان فارساً جريئاً، لغوياً موسوعيّاً، ومغامراً لا يخشى التورّط في المجهول. دخل الجزيرة متنكّراً، واقتحم الحجاز، وسلك دروب الحج، لا ليبحث عن السكينة، بل ليختبر حدود القدرة البشرية على التحمل. صحراؤه ليست ملجأً روحياً كما كانت عند ثسيجر، بل حقل تجارب يختبر فيه قدرته على التخفّي، ومهارته في تقليد اللهجات، وذكاءه في تجاوز شكوك الآخرين في شخصه.

يقول ولفريد ثسيجر: «في الصحراء وجدتُ حرية لا تُنال في كنف الحضارة، حياةً لا تعيقها الممتلكات، إذ يصبح كلّ ما لا تدعو إليه الضرورة عبئاً يثقل الروح». ويقول ريتشارد بيرتون: «من أسعد لحظات الإنسان في هذه الحياة، فيما أرى، أن يغادر في رحلة بعيدة إلى أرض مجهولة. ففي لحظة واحدة يخلع عن نفسه قيود العادة، وثقل الروتين.. ليشعر من جديد بأن السعادة ممكنة، بل قريبة».

وهكذا تتوزّع صورة الجزيرة في كتابات الرجلين بين حب الترحال وجرأة الاستكشاف، وبين هذين الصوتين - الهادئ والعاصف - تتكوّن إحدى أبلغ صور الجزيرة العربية في الوعي الغربي، صورةٌ تجمع التوق إلى الأصالة مع الدهشة أمام مكان لا يبوح بسرّه إلا لمن يمشي فيه خفيفاً، صابراً، مصغياً لنبضه القديم.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.

تويتر