هل يصبح الانتقام إدماناً؟

د. كمال عبدالملك*

إلى جانب المسكّنات والطعام والتكنولوجيا، يحذّر أحد الأطباء النفسيين الأميركيين من احتمال أن يتحوّل الانتقام - أو حتى التفكير فيه - إلى نوعٍ جديدٍ من الإدمان.

يَعرِف الطبيب النفسي جيمس كيميل هذا الخطر جيداً، فقد كاد في يومٍ من أيام مراهقته، أن يضغط على زناد المسدس انتقاماً من متنمّري المدرسة، لولا ومضة وعيٍ خاطفة أنقذته من أن يعيش عمره قاتلاً.

اليوم وبعد أن صار أستاذاً في كلية الطب بجامعة ييل، يرى كيميل أن الانتقام ليس مجرّد انفعالٍ عابر، بل رغبة كيميائية تنبع من الدماغ ذاته الذي يتوق إلى الدوبامين، مادة النشوة والمتعة، فحين نشعر بالظلم تتألم أدمغتنا فعلاً، فتبحث عن مسكّنٍ فوري - وهنا يتدخّل «الانتقام» ليقدّم لنا جرعته الخادعة.

غير أن هذه الجرعة لا تدوم، فكما في المقامرة والتدخين، يحتاج الإنسان إلى المزيد من الخيال أو الفعل الانتقامي ليستعيد لحظة اللذة. وهكذا يُساق في دوّامةٍ من الغضب والإشباع القصير، كمدمنٍ يبحث عن مخدّره المفقود.

لكن كيميل يذكّرنا بأن الانتقام كان في الماضي السحيق وسيلةً للبقاء، حين كان الدفاع عن الطعام مسألة حياةٍ أو موت، أما اليوم فنحن ننتقم لأجل «الأنا»، لا لأجل النجاة.

والمفارقة أن التكنولوجيا الحديثة جعلت هذا الإدمان جماعياً، فبكبسة زرّ واحدة يستطيع زعيمٌ سياسي أن ينقل مشاعر المظلومية إلى ملايين البشر، وأن يخلق موجاتٍ من الغضب المتبادل على وسائل التواصل الاجتماعي. الخوارزميات، كما يقول كيميل، صارت أشبه بمبيداتٍ سامةٍ للوعي الإنساني، ويجب تنظيمها كما تُنظَّم استعمالات المواد الكيماوية الخطرة.

ومع كل هذا التشاؤم، يفتح الطبيب نافذةً صغيرة للأمل: فالغفران، في نظره، هو الدواء الحقيقي، إذ تشير صور الدماغ إلى أنّ التسامح يوقف مناطق الألم ذاتها التي يُسكِتها الدوبامين، لكنه يفعل ذلك بسلامٍ لا بزيفٍ كيميائي.

لهذا أنشأ كيميل «محكمة خيالية» في تطبيقٍ إلكترونيٍّ يتيح للناس عرض مظالمهم والتصالح معها عبر الخيال، ليكتشفوا بأنفسهم أنّ التحرّر من الكراهية أعذب من الانتقام.

ويختتم كيميل حديثه لمجلة «هارفارد غازيت»، بتاريخ 3-11-2025، بعبارةٍ تبدو كخاتمةٍ أخلاقيةٍ لعصرٍ يزداد فيه الغضب اشتعالاً: «إذا كان الانتقام مجرّد متعةٍ رخيصة، فإنّ الغفران دواءٌ عجيب».

وهكذا يغدو الصفح أسمى أشكال مقاومة نوازع الشر داخلنا، إنّه فعلُ تطهيرٍ لا يُنقذ الفرد وحده بل يرمّم ما تهشّم في ضمير البشرية.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.

تويتر