روح تتنفس الرحمة
شاب صغير في السن لم يستفد من الفرصة التي منحت له حين ضبط متلبساً بتعاطي المخدرات، وسقط في الفخ مجدداً، فأحيل إلى النيابة العامة ومنها إلى محكمة الجزاء التي عاقبته بالحبس سنتين والغرامة بعد اعتباره متعاطياً للمرة الثالثة، فطعن على الحكم أمام محكمة الاستئناف ملتمساً الرأفة، ومؤكداً أنها المرة الثانية له.
محكمة الاستئناف استعملت الرأفة معه وقضت بتخفيف حكم الحبس من سنتين إلى شهر واحد فقط، بعد أن راعت حداثة سنه، لتمنحه فرصة أخرى يحافظ بها على مستقبله.
الحالة السابقة ليست فريدة أو نادرة، فالقضاء الإماراتي لا ينظر إلى القانون باعتباره أداة للردع فقط، وإنما وسيلة لإصلاح الإنسان والمجتمع أيضاً، ولا تطبق العدالة وفق مفهوم النص الجامد، وإنما تكون في كثير من القضايا روحاً حية تتنفس الرحمة والإنسانية.
ونجد ذلك عادة في الأحكام التي تسمح بالصلح والتسوية في الجرائم البسيطة، وفي العقوبات البديلة مثل الخدمة الاجتماعية التي تتيح للمخطئ فرصة خدمة المجتمع بدلاً من أن يعزل عنه بالسجن.
النص القانوني يضع القاعدة العامة، لكن روح القانون هي التي تمنح القاضي مساحة لتقدير الظروف الخاصة بكل حالة.
وتراعي المحاكم الإماراتية في كثير من قضايا الأسرة كذلك الجانب الإنساني والنفسي للطرفين، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالأطفال، فتعطي الأولوية لمصلحتهم الفضلى، حتى لو كان القانون ينص على غير ذلك.
ومن القضايا التي وردت فيها الحيثيات بديباجة بالغة الإنسانية، نزاع أسري بين زوجين منفصلين، التمس فيه الأب من مطلقته السماح بمبيت طفلتهما لليلة واحدة معه حتى يستأنس بها، وتوثق علاقتها بأشقائها من زوجته الثانية، لكن الأم رفضت ذلك، ولم تستجب لكل محاولاته الودية.
المحكمة استعملت روح القانون في الدعوى، مبينة أن الأصل هو مبيت المحضون لدى حاضنته، لكن قدرت القضية بما يحقق المصلحة الفضلى للطفل، ويعزز حقه في التعرف على والديه وتلقي رعايتهما الطبيعية، والاحتفاظ بعلاقات شخصية واتصالات مباشرة مع كليهما دون إرهاق وتعنت.
المحكمة ذكرت بأسلوب بديع أن الحاضنة تنعم برؤية الطفلة ليل نهار دون حاجب لرؤيتها ومجالستها، ومن ثم فإن رفضها لمبيتها ليلة واحدة مع أبيها يعد إجحافاً لحق الابنة والأب معاً، ومن ثم رفضت تعسف الأم، معززة بذلك قيم العدالة والتسامح والإنسانية، وطبقت روح القانون.
*محكم ومستشار قانوني
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.