الرعب والبهجة
حين وصلنا إلى الولايات المتحدة عام 1992، لبداية عملي أستاذاً في جامعة براون، فوجئتُ باقتراب احتفالٍ لم أعهده من قبل: الهالوين، ذاك العيد الأميركي الغريب، الذي تتجاور فيه الضحكة مع الرعب، والطفولة مع الأشباح. كان يبدو لي في البداية احتفالاً مروّعاً، أشبه بعرضٍ جماعيٍّ للكوابيس، لكن وجود أطفالنا جعل من المستحيل تجاهله. اشترينا لهم أزياء تنكّريةً مضحكة ومخيفة في آن، وابتعنا أكياساً كبيرة من الحلوى استعداداً لغزو الصغار عند المساء، ووضعنا على عتبة البيت اليقطينة المُجَوَّفة ذات الوجه المخيف، أو ما يُعرَف بـ«جاك أو لانترن»، والتي تُضاء لتُبعِد الأرواحَ الشريرة عن البيوت.
كل عام في مساء الـ31 من أكتوبر، تتحوّل الشوارع إلى مسرحٍ كبيرٍ تتزاحم فيه الألوان والأقنعة والأنوار، فيختلط فيها الخيال بالجنون، والفكاهة بالخوف، كما لو أنّ المدينة بأسرها تستعيد طفولتها لليلةٍ واحدة. الأطفال يرتدون أزياء غريبة، من الأشباح إلى الأبطال الخارقين، ويجوبون الشوارع مردّدين الأغنية الشهيرة «Trick or Treat!»، وهي عبارة تجمع بين الدعابة والتهديد اللطيف، كأنهم يقولون: أعطونا الحلوى وإلا! فيبتسم الكبار ويفتحون الأبواب راضين، يملؤون أكياس الصغار بالحلوى والسكاكر، فتتردّد القهقهات بين النوافذ، وتتعانق رائحة الشوكولاتة مع نسيم الخريف البارد، في مشهدٍ من البهجة الجماعية لا يخلو من سحر الطفولة ومكرها البريء.
أما الكبار في أميركا، فلا يقلّون حماسة عن الصغار؛ فالمكاتب والمدارس والمحال التجارية تتزيّن باليقطين المضيء والهياكل العظمية والعناكب الاصطناعية. في نيويورك تكون ذروة الاحتفال، فتكون في موكب «غرينتش فيلّيج»، أحد أكبر مواكب الهالوين في العالم، حيث يشارك الآلاف في عرضٍ صاخب من الأزياء الغريبة والموسيقى والرقص في قلب مانهاتن، ليصبح الهالوين في نيويورك كرنفالاً للخيال والحرية والإبداع.
لكن سكان الخليج لا يحتاجون إلى استيراد روح الهالوين، فلديهم ما يشبهه في الفرح الجماعي والاحتفاء بالأطفال، وهو القرقيعان. وهذه العادة التراثية العريقة تجمع بين الطفولة والدين والكرم، والتي يخرج فيها الأطفال بملابسهم التقليدية الملوّنة، يحملون أكياسهم المصنوعة من القماش، ويمرّون على بيوت الجيران يغنّون أهازيجَ تراثيةً تمتلئ بالدعاء والبركة. فيُستقبلون بالحب والضحكات، وتُقدَّم لهم المكسرات والحلوى، لا طلباً للمقايضة كما في «Trick or Treat»، بل احتفاءً بالعطاء والبهجة.
نعم، كلّ أمةٍ تحتفل بالهالوين على طريقتها، لكن ما يجمعها هو حب الطفولة، والفرح، والسعي إلى لحظةٍ من السحر الإنساني المشترك.
* باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.