لا نصر في الحرب
لم تكن الحرب العالمية الأولى مجرّد صراع بين امبراطوريات تتقاسم الأرض والهيمنة، بل كانت زلزالاً بشرياً مدمّراً حطّم أوهام المجد، وجرّد الإنسان من إنسانيته. هناك، بين الخنادق الموحلة، وسماء تُمطر ناراً وغازاً، انهار معنى البطولة القديمة، وارتفعت من بين الرماد صرخات الشعراء الذين رأوا الحقيقة عاريةً من الزينة. ومن بين هؤلاء، يعلو صوتان متقاطعان في الألم والوعي: صوت الجندي الشاعر البريطاني وِلفريد أويِن، وصوت الأديب اللبناني المهاجر ميخائيل نعيمة.
في قصيدته الشهيرة التي تحمل عنواناً باللاتينية، «Dulce et Decorum Est» (كم هو جميل وشريف أن تموتَ لأجل الوطن)، قدّم أويِن شهادة دامية عن الحرب قبل أن يموت برصاص العدو، لم يرَ فيها شجاعة ولا بطولة، بل رأها صفوفاً من رجال منحنين، يجرّون أقدامهم في الوحل، يسعلون كالعجائز، يسيرون وهم نيام. ثم تأتي اللحظة القاتلة: صرخة «غاز!» تمزّق الظلمة، والجنود يتخبطون كمن يفر من موت متربّص، لكن أحدهم يتأخر، فيغرق داخل غيمة خضراء، يلتهمه الغاز كبحر سامّ، يتلوّى، يختنق، ثم يُلقى جثّةً منسية في عربة تهتزّ على طريق مملوء بالموتى. هناك، في تلك اللحظة، تهاوت المقولة اللاتينية العتيقة. لقد اكتشف أوين أنها كذبة تبرّر المجازر وتجمّل القبور.
لم تكن الحرب عنده حدثاً عابراً، بل لعنة مستمرة، فكوابيسها طاردته حتى في النوم، يرى وجه الرفيق المحتضر، العينين تتقلبان في رعب، والفم يتغرغر بالدم، من هذه الرؤى انبثق شعره لا كنشيد وطني، بل كصرخة كونية ضدّ عبثية الموت. كتب أوين بدمه لا بقلمه، ومات قبل أن يرى نهاية الحرب التي فضحها شعراً.
وعلى الضفة الأخرى من العالم، في منفاه الأميركي، كان ميخائيل نعيمة يكتب قصيدته الخالدة «أخي»، لا من قلب المعركة، بل من قلب الإنسانية المجروحة. لم يكن جندياً، لكنه حمل جراح العالم في صدره. رأى أن الحرب لم تفرّق بين شرق وغرب، بين قاتل ومقتول، فالجميع ضحاياها. قال في قصيدته:
أخي! إن ضجّ بعد الحرب غربيٌّ بأعمالهْ
فلا تهزجْ لمن سادوا، ولا تشمتْ بمن دانا،
بل اركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ دامٍ، لنبكِ حظَّ موتانا
بين خنادق أوين وتأمل نعيمة خيط واحد من الألم: الأول تحدّث بلسان الجندي الذي احترق في الميدان، والثاني بلسان الفيلسوف الذي أبصر في الحرب سقوط الإنسان. كلاهما انتهى إلى الحقيقة ذاتها:
لا نصر في الحرب، فالموتى والأحياء جميعاً ضحاياها.
* باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
مسؤولية ما ينشر في مقالات الرأي تقع على الكاتب وحده ، ولا تتحمل الصحيفة مسؤولية الآراء الواردة فيها.