تأملات في رمزية الأعداد

د. كمال عبدالملك*

مازلتُ أحتفظ في ذاكرتي بلقائي مع المستشرقة الألمانية Annemarie Schimmel آن-ماري شِمِّيل (1922–2003)، ذلك الاسم الذي ارتبط في وجداني بالعلم العميق والرؤية الرحبة للثقافات الإنسانية. جمعتني بها جامعة هارفارد قبل أعوام طويلة، حيث أتاحت لي الظروف أن أتعرّف إليها عن قرب، ثم شرّفتني بكتابة مقدّمة لإحدى الدراسات المشتركة التي نشرتها بالإنجليزية في الولايات المتحدة، لتبقى تلك اللحظة علامة مضيئة في مسيرتي الأكاديمية.

من بين مؤلفاتها العديدة أقدّم للقراء كتابها المميّز The Mystery of Numbers (أسرار الأعداد)، إذ تكشف فيه عن أبعاد غير مألوفة للعدد، لا كأداة حسابية فحسب، بل كلغة رمزية تتجاوز الكلمات، تقودنا عبر الحضارات من الفيثاغوريين إلى الديانات التوحيدية، حيث يكتسب العدد معاني روحية عميقة.

الرقم واحد هو البداية والنهاية، رمز الوحدة والخلق، بينما اثنان يمثل الثنائية: نور وظلام، ذكر وأنثى، أرض وسماء، أما ثلاثة فهو اكتمال وتوازن، في عالمنا وفي حكاياتنا الشعبية، حيث يُكرَّر الرقم ثلاث مرات للتأكيد والبت.

الرقم أربعة يجد جذوره في الطبيعة: الفصول، الجهات الأربع، العناصر الأربعة، والخمسة في التراث الإسلامي تذكّرنا بأركان الدين، وفي الثقافة الشعبية ترمز للحماية: الكفّ المرسومة «خمسة وخميسة»، السبعة رقم شهير، يحلّ في كل مكان: سبعة أيام الأسبوع، سبع سماوات، سبع عجائب الدنيا، sabbatical leave إجازة تفرّغ علمي في السنة السابعة من التدريس.. إنه رمز الكمال والاكتمال، أما أربعون فهو زمن النضج الروحي والتحوّل، فترة التأمل والتهذيب التي تصنع الإنسان.

تظهر الأعداد في الأدب والفلكلور والفن، في الحكايات الشعبية العربية نجدها تُكرَّر لإيقاع القصة: «ثلاثة إخوة»، «أربعون لصاً»، «سبع بنات»، ترى شِمِّيل الأرقام لغة عالمية مشتركة، لكنها تتخذ ألواناً مختلفة بحسب الثقافة، ففي الغرب غالباً ما ترتبط بالحظ والأسطورة، وفي الشرق بالروحانية والتأمل. وفي عصرنا الرقمي، حيث تتحوّل الأرقام إلى شيفرات على الشاشات، يذكّرنا الكتاب بأن الأرقام ليست مجرد أرقام، بل ذكريات وأغانٍ وأمثال وأساطير حية.

إن سرّ الأعداد لن يُكشف بالكامل أبداً، لكنه حاضر في كل لحظة من حياة الإنسان، من شمعة عيد الميلاد الأولى إلى الأربعين التي تُقام للميت، فكل رقم يصبح قصيدة، وكل حساب صلاة، وكل عدّ رسالة خفية تخبرنا بأن الكون ليس مجرد معادلة، بل نسيج من الرموز والمعاني، يجمع بين العقل والقلب، ويمنحنا إحساساً عميقاً برموز حياتنا وأسرار وجودنا.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر