ليس مجرد غطاء للقدم
في تاريخ الحضارات، لم يكن الحذاء مجرد غطاء للقدم، بل كان رمزاً للهوية والمكانة والطقس اليومي. في الغرب كما في الشرق، ظلّت الأحذية تروي قصة الإنسان: من الصندل الذهبي الذي خطا به فرعون، إلى الخفّ المطرّز الذي حمل أقدام البدوي بين رمال الصحراء، ومن الحذاء المسمّر في ساحات روما إلى القبقاب الخشبي في أزقة أوروبا الموحلة، كأنما الأحذية كانت سجلاً لتاريخ الحضارات.
وهنا أسمحوا لي أن أذكر هذه الطرفة الشخصية: لم أستطع أن أكتب سطراً واحداً في بحث أكاديمي في مسكني بجوار جامعة هارفارد إلا إذا ارتديت حذائي الشتوي الضخم (boots). جربتُ مراراً أن أكتب حافياً في الدفء المنزلي، فإذا بالأفكار تتلاشى كما البخار من قدح الشاي. أما إذا انشدّت أصابعي في الحذاء، عاد ذهني منتظماً انتظام الجنود في طابور الصباح، وخُيّل إليّ أن القدم كانت تهمس إلى الدماغ: «لن أتركك تفكّر في حرية وأنا هنا أقاسي البرد».
وللأحذية والصنادل تاريخ طويل، ففي بلاد الرافدين صنعها الناس من جلد خام، وزيّنها الأغنياء بالخرز والأحجار الكريمة، أما في أوروبا فالقصة مختلفة، فالإغريق شدّوا سيورهم حتى الركبة، والرومان صنعوا الـCaligae، صنادل الجنود المسمّرة، التي تقول صراحةً: «القدم آلة حرب».
وفي النقد الغربي يُطلَق مصطلح Sword and sandal movies (السيف والصندل) على جنس سينمائي ازدهر في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، ويدور في عوالم من التاريخ القديم والأساطير: من ساحات روما وأوديتها، إلى معابد اليونان، إلى صحارى المشرق، وكأنّ الشاشة الفضيّة وجدت في بريق السيف وصلابة الصندل رمزاً مزدوجاً، الأوّل للقوة والعنفوان، والثاني للجذر الإنساني المتواضع، ذاك الذي يمشي على التراب، ولو كان حامله هرقل أو يوليوس قيصر. ثم جاءت أوروبا الوسطى الممطرة، فاختبأت الصنادل في خزائن النسيان، وحلّ محلها الحذاء المغلق، رمز الوقار.
وهنا يغدو الحذاء في الحكايات الشعبية رمزاً للهوية، فها هي سندريلا لم تحتج إلى تاجٍ يزيّن جبينها، ولا إلى نسبٍ تتباهى به، بل إلى فردة حذاء ضائعة كانت وحدها كفيلة بأن تكشف حقيقتها، كأن الحذاء يملك سلطة الكشف التي تعجز عنها الأنساب، وتخرس أمامها الألسن.
وهكذا يظلّ الحذاء يذكّر الإنسان بهذه الحقيقة، إنّه مخلوق يفكّر ويشعر ويحلم، ولكنه قبل كلّ ذلك وبعده، مخلوق يسير على قدمين.
* باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه