الأخوات برونتي.. العبقرية والمأساة

د. كمال عبدالملك*

لقد أسرتني رواية «مرتفعات وذرينغ»، للكاتبة إيميلي برونتي، بسحرها الغامض، وأسرني فيها على وجه الخصوص «هيثكليف» بطبعه الناري، وروحه الجامحة القلقة. ثمة شيء آسر في رجل يأبى أن يخضع لقوانين العالم وتقاليده، فيرحل في صمت غضوب، ثم يعود متحوّلاً وقد تسلّح بالثروة والسطوة الصامتة. إن عزيمته المستعرة، التي صيغت من الألم والنبذ، تمسّ فينا ذاك الجزء الذي يتوق إلى تجاوز الإهانة وإعادة صياغة المصير. فبـ«هيثكليف»، لا تروي إيميلي برونتي مجرّد حكاية حبٍّ قوطية، بل تنسج بريشة متمرّدة صورة روح تثور على جراحها، وعلى مجتمع يصرّ على إبقائها في مكانها. وهذه الطاقة الخام، الجامحة، هي ما يجعل من «هيثكليف» شخصية خالدة، ويكشف لنا عبقرية الأخوات برونتي بنفخ الروح في شخوص يضطرب في عروقها القلق والغضب والتمرّد.

في قلب الأراضي الوعرة المترامية في يوركشاير، نهضت ثلاث شقيقات ليحفرن أسماءهن في ذاكرة الأدب الخالد، رغم أن خطاهن على تراب الدنيا كانت قصيرة ومأساوية. شارلوت، وإيميلي، وآن برونتي - بنات كاهن إيرلندي، غيّر اسم عائلته من «Brunty» إلى «Brontë»، مضيفاً تلك النقاط الغامضة فوق الحرف، ليمنح الاسم وقعاً أرستقراطيا غامضاً - انبثقن من حياة تقشف وظل كثيف، ليشعلن عالم الأدب بكلماتهن.

إيميلي، أكثرهن انطواءً، كانت روحاً تتكلم لغة الرياح والحيوانات أكثر من لغة البشر. أنطقت روحها مرةً واحدةً في رواية «مرتفعات وذرينغ»، عمل اعتبره معاصروها مظلماً وحشياً يفوق حدود التهذيب، قبل أن يكتشف النقاد لاحقاً عبقرية عارية من التجميل.

أما آن، الرقيقة في ظاهرها، فقد أخفت قلباً ثائراً. تجرأت في روايتها «نزيل قاعة وايلدفيل» أن تكتب عن امرأة تترك زوجاً سكيراً عنيفاً لتعيش بكرامتها، في زمن كانت فيه المرأة تُختصر في بيت ورجل. وإن ظلت أعمال آن أقل شهرةً، بقي صوتها صادقاً شجاعاً، وسابقاً لعصره.

شارلوت، الكبرى، ذاقت مجد الشهرة أولاً بـ«جين إير»، لكنها حملت في قلبها جراح الهوى الذي لم يُكتب له أن يكتمل: عشق طفولي لدوق ولينغتون، ثم هيام ميؤوس منه بمعلم متزوج في بروكسل، تركت له رسائلها المحترقة بالشوق شاهدةً بعد موتها.

لكن من شظايا أعمارهن القصيرة، تفتّحت كتبٌ لم يخبُ ضياؤها. في كل صفحة نقرأها، نسمع خفقان رياح هاوورث، ونشمّ رائحة الأرض الرطبة، ونشعر بتمرد أرواح رفضت قيود زمنها، وكُتبت لتبقى حرةً، ولتعيد رسم العالم كما حلمت به في مخيلتها الجامحة.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

 

تويتر