وبالوالدين إحساناً
المتأمل في حديث القرآن الكريم عن الوالدين لا ينقضي عجبه من العناية الربانية بالوالدين، فتارة يوصي بهما، ليكون للوصية أثرها في تحنُّن الأولاد، لأن الذي أوصى بهما هو الرب سبحانه، وكفى بوصيته سبحانه وازعاً.
وتارة يأمر بالإحسان إليهما أمراً جازماً مقترناً بتوحيده وعبادته، ليعلم الأولاد أن من لازم الإيمان بالله وأداء عبادته الإحسان إلى الوالدين، وأن الإخلال بحق الوالدين هو إخلال بعبودية الله تعالى، فلا تكمل عبادته لربه وهو يخالف أمره بالإحسان ونهيه عن الإساءة.
وتارة بالثناء على البَرَرَة ليكون حافزاً لغيرهم أن يحذوا حذوهم حتى ينالوا مثل ذلك الثناء، إلى غير ذلك من حديثه الصريح أو الإشاري لحق الوالدين على الأولاد.
وإنما كانت هذه العناية الإلهية بالوالدين لعلمه سبحانه ما قد يكون من الأولاد من تفريط بحق والديهما، إما استخفافاً وتهاوناً من غير نكران حقهما، وإما عقوقاً وتنكراً لفضلهما، فكانت هذه العناية لحمل الأولاد على أداء حقوق الوالدين أياً كان حالهم، أغنياء أو فقراء، أصحاء أو مرضى، محسنين أو مسيئين؛ لأن حقوقهما ثابتة بالولادة بغض النظر عن أي شيء آخر، والتنكر لصاحب الحق يُعدّ انحرافاً عن الفكر السوي، والنهج الإنساني.
والمتأمل في حال كثير من الأولاد اليوم يرى أنه قد غاب عنهم مفهوم الإحسان للوالدين، فيرون أن الإحسان هو عدم الإيذاء، فيسلكون مسلك الاعتزال والاستغناء بالذات نظراً لاستقلالهم المعيشي، ولا يشعرون أن هذا نوع من الأذى النفسي الكبير للوالدين، ومنهم من يرى أن الوالدين قويان سويان غنيان فلا يحتاجان إلى تحنن وتعطف ومؤانسة، وهذا يُعدّ صدوداً وجحوداً لمعنى الوالدية.
والأدهى من ذلك كله أن يقصروا الإحسان في الأم، ويلووا أعناقهم عن أبيهم لسبب أو لغيره، وينسوا حديث القرآن عن الوالدين معاً، وقد يستندون لحديث الأمر ببر الأم ثلاثاً، ويجهلون أن الأم لم تستقل بالبر في الحديث، بل كانت العناية بها فيه؛ لما هي عليه من الضعف الجسدي والنفسي أحياناً، من غير تفريط بحق الأب؛ لأن التفريط بحقه يُعدّ عقوقاً مشؤوماً، فيوجب غضب الله تعالى وحرمانه من رحمته وجنته، واستحقاقه أن يكون مع مرتكبي الكبائر الموبقات، فضلاً عن أنه بذلك يُهيئ نفسه لينال من أولاده مثل ما كان يعامل به أباه، لأن البر دين وسلف فكما تدين تُدان، ألا فليحذر الأولاد التفريط بحقوق الوالدين، أو الميل كل الميل إلى أحدهما دون الآخر، فالوالدان أوسط أبواب الجنة فليضِع الولد ذلك أو يحفظه.
والله المستعان
* كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه