«بترك الدوام.. وبفتح بث»!
في زمن «اللايف»، لم يعد الطموح أن تتخرج أو تعمل أو تبني لنفسك اسماً.
صار الحلم أن ترقص، وتضحك، وتقول ما لا يُقال.. أمام جمهور مجهول، لتبقى في الضوء فحسب.
شاب يقرر ترك الجامعة، لأنه «بيفتح لايف»، وآخر يترك الوظيفة لأن «الدخل أعلى»، وثالثة تعلن أمنيتها علناً: «أموت وأنا أرقص على (التيك توك)»!
كلمات يندى لها الجبين، لكنها صارت اليوم تجني الهدايا والمشاهدات.
ومن أراد الاستمرار في هذه اللعبة، فعليه أن يستمر في السقوط أمام الكاميرا.
المؤلم.. أن بعض الأُسر - التي يُفترض أن تكون درعاً - أصبحت هي من يمدُّ هذا السقوط بالحبال.
في منطقتنا العربية نرى أمهات وآباء في البث مع أبنائهم، يقرؤون تعليقات مخجلة، ويردّون عليها، وكأن شيئاً لم يكن، بل يضحكون ويتفاعلون!
والفتاة تؤدي التحديات المطلوبة بوجود والديها: قفز، حركات، ... لأجل حفنة هدايا افتراضية تصل إلى 500 دولار لكل واحدة.
ويدخل معهم «الضيف»، الذي سيشارِكهم التحدي، ولا يمتّ للحياء أو للرقي بصلة، لكنه «هامور» في المنصة، وتجب مجاراته لنكسب من ظهوره في «اللايف»!
لكن ما يؤلم أكثر: أن قيماً مثل الخصوصية، وستر البيت، واحترام النفس... تقلّصت أمام هذه الموجة.
أصبحت التفاصيل التي كانت تُحكى في المجالس تُبث الآن على الهواء.
وأصبح ما كنا نخجل منه هو ذاته ما يرفع «التفاعل».
ما قيمة ما تملك وتلبس وتعيش إن كنت قد أرخصت نفسك أمام الناس؟
ما قيمة البيت إن أصبح محتوى؟
وما قيمة الأبوين إن كانا أول المصفقين لسخافة أبنائهما؟
يؤسفني أن يُطلق على هؤلاء اسم «مؤثرين».
هم ليسوا سوى مستهلكين أو بالأدق: «شحاتين تكبيس».
حتى لا نظلم الجميع، هناك من المؤثرين على منصات التواصل من نرفع لهم القبعة، وجهودهم في التوعية والتثقيف ورفع اسم أسرتهم ودولتهم عالياً.
ولكنها دعوة أن نُحسن الاختيار، وأن تُمنح هذه الصفة لمن يستحق.
وهي أيضاً نداء لمنظّمي المؤتمرات والمعارض أن يُحسنوا الانتقاء.
فليس كل من يُتابَع يُحتذى، وليس كل ما يلمع ذهباً.
ولو كان «التكبيس» يصنع كرامة، لما انكسر الحياء على يد حفنة من المتابعين.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه