هل كل ما انكسر يُمكن إصلاحه؟

د. كمال عبدالملك*

في واحدة من القصص الساخرة في كتاب «أوراق بيتركن، 1880» تسكب السيدة بيتركن ملعقة من الملح في فنجان قهوتها بدلاً من السكر. وبدلاً من الاعتراف بالخطأ البسيط، تسعى إلى «إصلاح» فساد الطعم عن طريق استدعاء نخبة من «الخبراء» لإضافة محاليل وعقاقير (بما في ذلك قطرات من صبغة اليود).

استمرت محاولات الإصلاح لفترة، لكن من دون جدوى حتى جاءت امرأة حكيمة واقترحت حلاً بمنتهى البساطة: «تخلصي من القهوة وحضّري لنفسك فنجاناً جديداً».

هذه القصة الطريفة تحمل في طيّاتها حقيقة إنسانية عميقة: من الصعب على كثير من الناس أن يعترفوا بأنهم أخطأوا. وهذا التمنّع ليس خللاً فردياً، بل هو في جوهره جزء من الطريقة التي نبني بها فهمنا للخبرة والكفاءة.

في مجتمعاتنا، تُعدّ الخبرة رأس مال رمزيّاً لا يُستهان به. فنحن نمضي سنوات، بل عقوداً، في ترسيخ معرفة متخصصة وهويّة مهنية نباهي بها. غير أن هذا السعي المشروع نحو الإتقان قد يتحول إلى سجن ذهني، فكلما زادت خبرتنا، تزداد مقاومتنا للاعتراف بالخطأ أو إعادة النظر في فرضياتنا. وقد يستمر الطبيب في تأكيد تشخيص خاطئ بدلاً من التفكير في احتمالات بديلة.

المأزق يكمن هنا: حين نصبح أسرى لنماذج تفكيرنا الجامدة، نخسر قدرتنا على التفكير الإبداعي والانفتاح على المستقبل. في عالم يتغيّر بسرعة وتتضاعف فيه التعقيدات، تصبح مرونة العقل ضرورة لا ترفاً.

وكما يقول «يودا» في سلسلة حرب النجوم: «لكي تتعلّم الجديد، عليك أن تنسى ما تعلّمته سابقاً»، وهي مقولة لا تقتصر على سياقها الخيالي، وإنما تتجاوز ذلك إلى حكمة تأملية عميقة تمسّ جوهر التعلّم والتجديد. إنها دعوة إلى التخلّي عن المألوف والموروث، لا ازدراء لهما، بل تحرّر من سطوتهما حين يغلقان منافذ الإدراك. فالعقل المُثقل بالمسلّمات لا يملك خفّة الاكتشاف، والذاكرة المزدحمة بالجاهز قد تعيق لحظة التجلّي. إن هذه المقولة، في جوهرها، تحرّضنا على ممارسة شجاعة النسيان، كبوّابة عبور نحو أفق أوسع للفهم، حيث لا يكون التعلّم تكديساً لما كان، وإنما انفتاح لما يمكن أن يكون.

إن إصرار السيدة بيتركن على إصلاح فنجان القهوة المالح، بدلاً من سكبه والبدء بفنجان جديد، يعكس مثابرة حسنة النية، لكنها في غير محلها. تذكر بأن الحكمة لا تكمن دوماً في الإصرار على إصلاح ما انكسر، بل أحياناً في التخلّي عنه والبدء من جديد.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر