لماذا «الإخوة كارامازوف» مهمة اليوم؟

د. كمال عبدالملك*

في روايته «الإخوة كارامازوف»، يخطّ دوستويفسكي لوحة إنسانية تفيض توتّراً وجوديّاً، وتخترق أغوار النفس البشرية بمنتهى العُمق والجرأة. لا تُبنى الرواية على حبكة بوليسية فحسب - رغم تمحورها حول جريمة قتل الأب - بل تتجاوز ذلك لتغدو محاكمة كبرى للضمير الإنساني، واستدعاء فكرياً لأسئلة الإيمان والحرية والشرّ.

يرسم دوستويفسكي الشخصيات لا كأفراد، بل كرموز مُتجسّدة لحالات روحية ونفسية متناقضة، ديمتري هو الجسد في أوج اندفاعه، تتنازعه الشهوة والندم، بينما إيفان يمثّل العقل الجريح، الذي «يتحوّل إلى عدوٍّ للناس كلما اقتربوا منه»، ويطرح أسئلته اللاهوتية القاتلة عن وجود الشر في حياتنا وما يسببه من آلام للأبرياء، أما أليوشا، الراهب الشاب، فهو وجه المحبة المضنية، حيث «يصبح الحب، حين يُترجم إلى فعل، صعباً مقارنة بحب الأحلام».

تكمن عبقرية دوستويفسكي في خلقه فضاء سرديّاً تتقاطع فيه الفلسفة بالدراما، وتتمازج فيه الميتافيزيقا بحكايات عن شهوات الجسد المُلحّة، فالشخصيات لا تُروى بوصفها مسارات روائية، بل كمرايا لقلق الإنسان الحديث. ولذلك، لا عجب أن يقود الكذب على الذات إلى الرذيلة، كما يقول أحدهم: «من يكذب على نفسه ويصغي إلى كذبه.. ينحدر في الرذائل إلى درجة البهيمية».

ليست الرواية دعوة إلى أجوبة جاهزة، بل هي قلق نبيل، يهزّ الضمير كما لو أن دوستويفسكي يكتب إلينا من قلب هاوية هذا العصر، حيث تُسوَّق الحرية كفكاكٍ من كلّ التزام، لكنها تُذكّرنا، بل تُؤنّبنا برفق، بأنه لا حرية تستحق اسمها إن هي انفصلت عن الواجب الأخلاقي، وأن الطريق إلى المطلق لا يُشقّ بالصراخ أو العصيان، بل بالإنصات المرتجف لذلك الكسر الغائر في أعماق الكائن البشري، ذلك الكسر الذي لا يُرى إلا بعين مبلّلة بالتعاطف.

أما الاشتراكية، فدوستويفسكي لا يعارض عدالتها الاجتماعية، بل يكشف قلقه من غايتها اللاهوتية المنقوصة، إذ يرى فيها «برج بابل مشيَّداً بلا إله.. ليقيم السماء على الأرض» وهو في ذلك لا يدين الفكرة، بل يُحذّر من بناء المطلق فوق فراغ روحي مغيّب لروابط التعاطف.

إنّ «الإخوة كارامازوف» صرخة إنسانية، ترافق القارئ كما لو كانت مرآة داخلية تُعيد طرح السؤال القديم-الجديد: «كيف نحبّ البشر الآخرين في عالم يفيض بالكراهية؟» وفي إيثاره للحوار على التقرير، وللتوتر على الحسم، يعلّمنا دوستويفسكي أن الأدب العظيم ليس في أن يقدّم حلولاً، بل في أن يجعلنا أكثر قدرة على طرح الأسئلة الصعبة.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر