لا تشدّها
قطع رجل خمسيني الطريق دون أن يلتفت، وكاد أن يُدهس، لولا أن أوقفنا السيارة في اللحظة الأخيرة. استنكرت تصرّفه، لكن أخي أشار بهدوء إلى يساري وقال: «خرج للتو من المحكمة، لا تحكم عليه قبل أن تعرف ما أثقل قلبه».
يسير وجسده بين الناس، لكن روحه معلّقة هناك، في قاعة ربما سمع فيها حكماً غيّر مجرى حياته، فهمت حينها أن بعض الناس لا يرون الشارع، لأن رؤيتهم مشغولة بما هو أثقل من النظر.
لا أحد منّا خالٍ من الهم، هذا خسر وظيفته، وذاك مدين، وآخر يصارع المرض.. لا تحكم على الناس من تصرف عابر أو وجه عابس، بعضهم يقاتل في صمت، وبعضهم يتجمّل كي لا يسقط أمامك.
حتى المدير في عمله، عليه أن يقرأ الوجوه قبل التقارير، أن يسأل بلطف، لا أن يحاسب بجمود، أن يعلم أن الإنسان قد يحضر جسداً ويغيب قلباً، أحياناً كل ما يحتاجه أحدهم هو جملة بسيطة: «أمورك طيبة؟».
اللباقة ليست ترفاً، إنها نجدة، كلمة حانية قد توقظ أحدهم من حزن، وابتسامة صادقة قد تنقذ يوماً رمادياً. أسنانك جميلة بابتسامة هوليوود، ابتسم «طلّع» قيمتها!
وفي البيت، الأمر ذاته، الزوجة لا تنتظر حلولاً، بل من يشعر بتعبها، والأبناء لا يحتاجون دائماً إلى تعليمات، بل إلى من يفهم خوفهم وسكوتهم، اللباقة ليست تزييناً للكلام، بل رعاية خفيّة، ترفع بها مقامك، وتترك بها في قلوب الناس أثرك.
دبي فهمت هذا المعنى، حين تهبط في مطارها، يستقبلك الصف الأمامي بوجوه إماراتية مبتسمة، بلباس وطني لا عسكري، كأنهم يقولون: «هلا بك في دارك». في أكثر المطارات ازدحاماً في العالم، لم يتخلّوا عن اللطف، ولا عن اللغة الناعمة. لا صراخ، لا عبوس، بل «تأمر أمر»، و«على راحتك»، و«تبي مساعدة؟».
وهكذا تُصنع القيم في التفاصيل.
في الإمارات، كل من جلس في مجلس الشيخ زايد، يعلم أن الكلمة الطيبة كانت حاضرة دائماً، بعين تنظر وقلب يشعر. حتى في أشدّ المواقف، كان الشيخ زايد يختار اللين على القسوة، ويؤمن بأن الرفق باب لكل خير.
وسار على نهجه شيوخنا الكرام، وأصبحت الإمارات مثالاً يحتذى بالأخوة والتسامح.
ليست كل معركة تحتاج إلى سيف، أحياناً كل ما يحتاجه الناس هو صدرك الواسع، ولسانك الليّن، وابتسامتك إليّ تقول: «أنا فاهمك.. ولو ما قلت».
*إعلامي وكاتب صحفي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه