مشاهدات سفير عربي في الصين

د. كمال عبدالملك*

في القرن الـ14 أرسلت الصين همسها البعيد إلى رحالة مسلم من طنجة، فاستفاق قلبه على نداء لا يُرد، وحمل عصا الترحال بفرح كما يحمل العاشق وعود اللقاء، ومضى نحو المشرق، لم تكن الصين في ناظري هذا الشاب الجوال بقعة على هامش الخرائط، بل كانت أسطورة تتنفّس بالحكمة، وتغفو في حضن التنين الأسطوري، لتصحو كل صباح على تراتيل المعابد وهمسات العجائب.

دخل ابن بطوطة الصين وفي قلبه دهشة وفي عينيه أسئلة. كتب عنها كما يكتب شاعر عن محبوبة: نظافة في الشوارع، وعدالة في الحكم، وأوراق نقدية، ونظام يختلف عن كل ما ألفه، لكنها في عينيه ظلت كوكباً لا تُقاس أزمانه بساعات العرب، ولا تُفهم إلا بمنطق الاختلاف والدهشة.

وبعد ستة قرون وصل إليها السفير حسين راشد الصبّاغ، ليس كرحّالة، بل دبلوماسي بحريني مثقف حمل بين يديه كتاباً وذاكرة، وقلقاً عربياً متجدداً تجاه الآخر، في كتابه «سفير عربي في الصين: يوميات ومشاهدات»، لا يكتفي بالسرد، بل يُطرّز تأملاته بخيوط أدبية تقترب من الشعر حيناً، ومن الفلسفة حيناً آخر. يتحدث عن الطفل البحريني الذي شاهد في كتاب «القراءة الرشيدة» صورة تلميذ صيني عُقدت جديلته في الكرسي حتى لا يغفو، وكيف تحولت تلك الصورة إلى رمز لإرادة شعب يصنع التاريخ.

يتنقل الصباغ من ريف الكاتبة الأميركية، بيرل بيك، في روايتها «الأرض الطيبة» وشخصياتها الصينية إلى قلب بكين الحديثة، ليرى الصين لا كفكرة، بل حقيقة نابضة تنهض من رمادها كالعنقاء. يشهد تحوّلاتها، ويلتقط أنفاسها بين أزقة الاقتصاد المتسارع، وأرصفة الأيديولوجيا المتغيرة.

رحلة ابن بطوطة كانت تأملاً في الآخر، ورحلة الصبّاغ كانت - إلى جانب ذلك - تأملاً في الذات. فالصين لم تكن عند كليهما وجهة عبور، بل مرآة تسأل العربي عن موقعه بين الأمم، وعن إمكانية أن يُصغي للعالم كي يبصر ذاته من جديد.

الصين في عين الرحالة والسفير العربي، لم تكن يوماً مجرد محطة، بل مرآة. من ابن بطوطة المتأمل في سلوك الحكام، إلى حسين الصباغ الذي عايش الثورة والتنمية، يتضح أن هذه البلاد الشاسعة، بطبيعتها وثقافتها وتناقضاتها، تظل تحفزنا على التساؤل، وتصدمنا بالدهشة.

وإذا كانت الرحلة إلى الصين رحلة إلى الآخر، فإنها أيضاً - بالدرجة ذاتها - رحلة إلى الذات العربية المتسائلة: من نحن؟ وأين نحن من شعوب تصنع مستقبلها بإصرار وجدائل مشدودة على كراسي الدراسة.

*باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر