الوقف على الوالدين
البر بالوالدين المطلوب شرعاً وعقلاً لا يقتصر على البر بهما في حال الحياة، مع عظيم أهميته في حال الحياة، لأن عدمه يكون عقوقاً موجِباً لغضب الله تعالى والحرمان من الجنة، إلا أنه بعد الوفاة لا يقل أهمية ولا نفعاً، وذلك حينما ينقطع الوالدان عن دار العمل، ويصبحان فقيرين لرحمة الله تعالى، ورحمة من يُحسن إليهما بعمل صالح يُهدى ويُثوّب لهما، من صدقة جارية أو منقطعة، أو دعاء أو صلة أهل وُدِّهما أو ثناء عليهما، فكل ذلك مما ينتفع به الأبوان في البرزخ الذي يبقيان فيه إلى يوم البعث. فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل بقي من بِر أبويَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»، فدلّه النبي عليه الصلاة والسلام على ما يقدر عليه من البر بأبويه بعد وفاتهما، وهو أمر يسير ومقدور عليه لو أن الولد استشعر حق والديه، ولا يستشعر ذلك إلا الولد الصالح، فهو الذي يدعو ويستغفر ويصل الرحم ويُكرم أصدقاء والديه، لأن ذلك يفرح أبويه في قبرهما، وينتفعان بدعائه واستغفاره، فإن كان ذا سعة، فإن من البر بهما كذلك تحبيس ما يقدر عليه من عقار أو حفر آبار أو بناء مساجد يذكر الله تعالى فيها، أو إنشاء مدارس لتعليم الناس، فإن هذا يكون أعظم أجراً وأكثر نفعاً. فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن أمي افتُلتت نفسها - يعني ماتت فجأة - وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم تصدق عنها». هكذا استشعر الابن البار رغبة أمه في الصدقة بنفسها، لو لم تعاجلها المنيّة، فحقق لها رغبتها في الصدقة الدائمة التي لا ينقطع أجرها ما دامت نافعة، وهذا من البر الذي يفطن إليه الموفقون.
ثم إن هذه الصدقة التي يتصدّق بها الولد على أبويه هي في الحقيقة صدقة عن نفسه، فإن له مثل أجرها لا ينقص من أجره شيء، ولعله بذلك يسن لأولاده أن يحذوا حذوه فيتصدقوا عنه وعن أنفسهم، فإنهم يستشعرون كيف كان أبوهم باراً بأبويه، فيفعلون مثل فعله، كما ورد «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم». وورد أيضاً: «البر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تدان».
*كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه