رحّالتان يعبُران سور الصين العظيم

د. كمال عبدالملك*

في فضاء التاريخ، يلتقي ماركو بولو وابن بطوطة، كما تلتقي الرياح الشرقية والغربية على صفحة بحر واحد. كلاهما شدّ رحاله إلى الصين، لكن سفينتيهما رَسَتا على شاطئين مختلفين من الفهم والتجربة الشخصية.

ماركو بولو، تاجر فينيسي شاب دخل الصين في أواخر القرن الـ13 عبر بوابة الإمبراطورية المغولية. كان ضيفاً مقرّباً في بلاط كوبلاي خان، يتمشى في ممرات القصور ويدوّن مشاهداته بعيون مندهشة، لا تخترق العمق الثقافي، بل تُعنى ببريق الإدارة وتطور البريد، والنقود الورقية. كانت الصين عنده آلة ضخمة تدار بعجلة المغول، لا مرآة تعكس أرواح أهلها أو فلسفتهم: «فاعلموا أنه بأمر من الخاقان الأعظم، أقيمت بين محطات البريد، وعلى مسافة كل ثلاثة أميال، حصون صغيرة تحيط بها نحو 40 داراً، يسكنها أناس قد خُصّصوا ليكونوا عدّائي البريد، أو رُسل الإمبراطور على الأقدام».أما ابن بطوطة، عابر الدروب الصوفي من طنجة، فقد جاء في مطلع القرن الـ14 يجول في الصين كمن يتلمّس الطريق في أرض عجيبة، باحثاً عن أثر الروح وسط صمت المعابد وصخب الأسواق. لم ينبهر كثيراً ببريق الحكم، بل نظر إلى الأعراف والعادات بعدسة نقدية، استوقفته عادة الصينيين في ربط أقدام نسائهم لمنعهن من الخروج من البيت، فعدّها طقساً قاسياً تمجّه الإنسانية.

وبينما رأى ماركو بولو نظاماً فعالاً يحقق الربح والنجاح في الدنيا، رأى ابن بطوطة مسافة بين الناس وربهم. وحيث وصف الأول ثراء خان باليق، تحدّث الثاني عن قلة المساجد وترحيب مسلمي الصين بالزائرين المسلمين: «إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح، وقالوا: جاء من أرض الإسلام. وله يعطون زكوات أموالهم، فيعود غنياً، كواحد منهم».

كلاهما أُعجب باستقرار الصين تحت حكم المغول، لكن أحدهما رأى النظام والانضباط والعمل، والآخر رأى الإنسان والقيم والتقوى. الفرق بين الروايتين ليس مجرد تفاصيل، بل هو فرق في البوصلة. بولو كتب برؤية التاجر المرتبط بالبلاط، فجمّل كلماته بلغة رسمية. أما ابن بطوطة فكتب بلغة القلب، وعين المتأمل المتسائل، يروي ما يرى، وينتقد كما يشعر.

وهكذا في صفحات التاريخ، لا تتشابه الرحلات وإن تشابهت المسارات. فالصين التي رآها ماركو بولو، ليست هي الصين التي زارها ابن بطوطة. الأولى كانت قصراً مغولياً، والثانية كانت مرآة لانعكاس روح مسافر مسلم. ومن بين هاتين العدستين تتكون لنا صورة فسيفسائية عن لقاء الثقافات في زمن لم يعرف الحدود.

*باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر