بين الحكمة والعزلة.. الشيخوخة في الأدب

د. كمال عبدالملك

خلال رحلتي الحالية إلى القاهرة لزيارة معرض الكتاب التقيتُ طبيباً مصرياً متميزاً بلغ المائة، لكن حديثه الشائق كان كالنهر المتدفق، لا يعوقه زمن ولا يخذله وهن. كان عقله وهاجاً كمنارة شامخة، وصوته ينساب بسلاسة كأوتار كمان قديم، يحكي لي عن أيامه في الإسكندرية وألمانيا، فأيقظ في ذهني فكرة الزمن، وجعلني أبحر في تأملات عن الشيخوخة.

تمثل الشيخوخة موضوعاً محورياً في الأدب العالمي، إذ يتم تناولها بأساليب مختلفة تعكس الفلسفات الثقافية المتباينة، فبينما تُصوَّر أحياناً كمرحلة نضج وحكمة، فإنها في أحيان أخرى تمثل العزلة والتدهور الجسدي والنفسي، وقد عالج الأدب العربي والغربي هذه المرحلة بطرق متباينة، لكنها تشترك جميعها في إبراز التحولات العميقة التي تصيب الإنسان مع تقدم العمر.

يُنظَر إلى كبار السن في العديد من الأعمال الأدبية باعتبارهم مصدراً للمعرفة والخبرة، ففي مسرحية «الملك لير» لشكسبير يعكس البطل معاناة الشيخوخة وتأثيرها على العلاقات الأسرية، كما أن العزلة تُعد سمة بارزة في الأدب، كما يظهر في رواية «العجوز والبحر» لهمنغواي، حيث تُمثل العزلة اختباراً لقوة الإنسان الداخلية.

ولم يكن الأدب العربي بمعزل عن هذه القضية، إذ رصد الشعراء معاناة الشيخوخة منذ العصر الجاهلي. بلوغ الشيخوخة بمثابة عقاب للشاعر لا مكافأة له، لأنه يعني إطالة للعذاب ومراكمة للضجر، وهو ما يعكسه بوضوح قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: «سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعشْ.. ثمانين حولاً لا أبَا لك يسأمِ». أو قول لبيد بن ربيعة بالمعنى نفسه: «ولقد سئمتُ من الحياة وطولها.. وسؤال هذا الناس: كيف لبيدُ؟»، أما ذو الإصبع العدواني فيهجو الشيخوخة فيقول في إحدى قصائده: «أصبحتُ شيخاً أرى الاثنين أربعة.. والشخصَ شخصين لما مسّني الكبَرُ.. وكنتُ أمشي على الرجلين معتدلاً.. فصرتُ أمشي على ما تُنبت الشجرُ».

وتستمر هذه التأملات في الأدب الحديث، حيث يتناول الشعراء محنة التقدم في السن بأسلوب تصويري يجمع بين الحنين والأسى. ومن اللافت أن بعض الأدباء لم يروا في الشيخوخة مجرد انحدار، بل مساحة جديدة للإبداع والاحتفال بالحياة، كما قال الشاعر أحمد الصافي النجفي: سِنّي بروحي لا بعدّ سنيني.. فلأسخرنّ غداً من التسعين.

بين التصالح مع الزمن ومواجهة قسوته تظل الشيخوخة موضوعاً أدبياً غنياً يعكس تطلعات الإنسان وهواجسه تجاه العمر والزمن والمصير.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر