رجب الأصم
سمى الله تعالى بعض أشهر السنة «الأشهر الحُرُم»، ومنها شهر رجب الذي هلَّ علينا منذ بضعة أيام، وهو الشهر الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يستبشر بقدومه، ويقول إذا دخل: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا رمضان»، للتدليل على مزيَّة هذا الشهر على غيره، ومنها أنه أول الأشهر الحُرُم التي فضلها الله تعالى على غيرها، وأوجب على عباده أن يقدُروا لها قدرها، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، وقد كانت حرمتها معروفةً في الجاهلية من بقايا الحنيفيَّة ملة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حتى إن أهل الجاهلية كانوا يسمون شهر رجب «الأصمَّ»، لأنه كان لا يسمع فيه حركة قتال ولا نداء مستغيث، لشدة تعظيمه، فكأنه أصم عن القتال، فلا تسفك فيه الدماء التي كانت تسفك عصبية وجاهلية في غير الأشهر الحُرم.
وقد ورد ذكر «الأشهر الحُرُم» في الآية الكريمة مجملاً، بينها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»، ومعنى كونه استدار: أن تعاقب السنين أعاد حرمتها المسلوبة، والمتلاعب بها في الجاهلية تبعاً لأهوائهم، حيث كانوا إن احتاجوا لقتال في الشهر الحرام ينقلون حرمته إلى شهر آخر، بما سماه القرآن الكريم نَسِيئاً، وأخبر أنه زيادة في الكفر، لكونه افتراءً على الله تعالى بتحريم الحلال، وتحليل الحرام.
ونسب شهر رجب لقبيلة مضر؛ لأنها كانت أشد تعظيماً له، حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه في هذا الشهر فلا يُذعِره ولا يزعجه.
وها هو الشهر الحرام قد هلَّ علينا بفضل الله تعالى؛ فعلينا أن نعرف له قدره فلا نظلم فيه أنفسنا بمعصية، فضلاً عن سفك الدماء المحرمة التي يتشهى الظالمون سفكها من غير جرم ولا جريرة، فربّنا سبحانه ينهانا عن أن نظلم أنفسنا حتى لا يؤاخذنا بذنوبنا، فمن الذي يتعظ من عباده بذلك إلا المتقون، والواجب أن يكون المسلم معظماً لما عظم الله تعالى، حامياً نفسه أن يقع في مخالفة أمره بتقصير في واجب، أو وقوع في إثم. اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان.
*كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه