حينما تفقد اليد روحها

د. بروين حبيب

في معرض الكتاب الأخير بالقاهرة، أهداني بعض الكتّاب مؤلفاتهم مطرّزةً بكلمات رقيقة بخطوط أيديهم. وفي لحظة تأمّل شعرت بحنين كبير لرؤية خطوط بعض أصدقائي المبدعين، بعد أن اقتصر تواصلي معهم على حروف الأجهزة المتشابهة الباردة. هل نحن مقدمون على عصر تنقرض فيه الكتابة اليدوية، وتحل أزرار الهاتف الذكيّ محل أناملنا وهي ترسم الحروف على الورق؟ أؤكّد على ما ذكرته في مقالي السابق عن الكتاب الإلكتروني بأنّني لست ضد التكنولوجيا، فهي أساس التطور البشري، لكن ما يؤلم حقّاً أنها حوّلتنا إلى متشابهين من دون خصوصيات.

مازلت أذكر سعادتي الكبيرة حين قرأت ديوان نزار قباني «أبجدية الياسمين» منشوراً بخط يده، فجمع متعة الشعر ومتعة العين. وكم حاولت في صغري أن أجوّد خطي وأحسّنه حتى وصل إلى مرحلة ترضيني، لأنّي أؤمن بكلمة علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه «الخط: للأمير كمال، وللغنيّ جمال، وللفقير مال».

لوحة المفاتيح ألغت هذا التمايز الجميل بيننا، وكم كانت صادقة وجارحة كلمة صديقتي كاتبة السيناريو ريم حنّا، حين لاحظت أن خطوطنا من خلال الأجهزة أصبحت متشابهة تماماً كتشابه النساء اللواتي يَحقنَّ وجوههنّ بـ«البوتكس» و«الفيلر»، فيصبحن من دون تعابير ولا ملامح ولا فروقات. خطوط لا تستشفّ من شكلها حزناً ولا فرحاً ولا ارتباكاً ولا عجلةً ولا غضباً، ولا روح كاتبها التي كانت تفضحها ارتجافة القلم أو ثباته، فنعرف الشخص الدقيق من خطوطه المستقيمة، والمتلهّف من حروفه المبعثرة، والعاشق من كلّ تفصيل، بدءاً من الورق والحبر، وانتهاء بالظرف الذي تودع فيه الرسالة.

لا يتعلق الأمر بالحنين فقط، بل أكدت دراسات أكاديمية عدة على أن الكتابة باليد تساعد على سهولة التعلم، ولكني أنظر إلى الموضوع من جانب وجداني، فكم من مهنة مرتبطة بالكتابة اليدوية تكاد تنقرض، إذ استغنت المحاكم عن خبير الخطوط الذي يفضح التزوير ويكشف التلاعب، وهل نتذكّر كم من وقتٍ مرَّ بنا دون أن نرى ذلك الكائن الجميل الذي يسمونه ساعي البريد، بما كان يحمله من بشرى لأم تنتظر بلهفة أخبار وحيدها، أو حبيبة روحُها معلقةٌ بخط حبيب ابتعد به المكان.

وبعد هذا هل ألام حينما كنت أردد دوماً أمام من يعرفني عبارة ليتني عشت في زمن آخر، ولأتخيّله امرأة من القرن الـ19 تكتب بالريشة والمحبرة، وتأتيها الرسائل مختومة بالشمع الأحمر، وتقرأ كتابها المفضل في عربة تجرّها الأحصنة، وتضع كتبها في صندوق كبير قرب سريرها، أليس هذا أفضل من أن أصبح «دوللي» أخرى في زمن الاستنساخ؟!

DrParweenHabib1@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر