الوطنُ أمانةٌ وحفظه دِيانة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

في قِصَّة كعب بن مالك - رضي الله عنه - أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في غزوة العُسرة (تبوك)، عبرةٌ وعِظة لمن يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، يستبدلون بالوطنية الخيانة والتعلق بالسراب، فيها عظةٌ لأولي الألباب الذين يحكمهم الدين، وتزعُهم الأخلاق الكريمة عن الانزلاق إلى الحضيض.

لقد كان كعبٌ - رضي الله عنه - في حالة بالغة من اليأس حتى ضاقت به وبإخوانه الثلاثة الذين خُلِّفوا، الأرضُ بما رحُبت، وضاقت عليهم أنفسُهم، من شدة المقاطعة الجماعية من المجتمع المسلم كلِّه، بسبب تخلفهم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تلك الغَزاة البعيدة المدى، وشِدة الحر، وإلحاح الحاجة لتكثير عدد المسلمين مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمام عدوهم الروم، مع أنهم كانوا متمكنين مادياً وجسدياً.

في غَمْرة ذلكم الضيق والشدة يصل إلى كعب، وهو كبير الثلاثة - رضي الله عنهم - كتابٌ من ملك الروم، يُدغدِغ مشاعره، يدعوه للالتحاق به في الروم، ويقول له: «فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا منقصة، الحقْ بنا نواسك»، أي يشتري ضميره حتى يكون عميلاً له، ويبيع وطنه وعهده وكرم أخلاقه، يظن ملك الروم أن من كان حاله كحال كعبٍ لن يتردد بقبول العرض المغري من أجل السعادة الذاتية، وما درى أن من تربَّى بين يدي المصطفى، صلى الله عليه وسلم، لن يبيع دينه ووطنه وكرم أخلاقه بعرض من الدنيا قليل، مهما أحاطت به الشدة، إنه كعب الشريف المُنيف، فما أن وصله هذا العرض الخسيس، حتى قال: «هذا والله من البلاء»! فعمد به إلى التنور وسجَّره.

نعم إنه بلاءٌ وفتنة قد يسيل له لعاب ضعفاء النفوس، كأمثال هؤلاء الخونة الذين تعصف بهم الأهواء، ويقدمون الولاء لغير الله ورسوله وولاة الأمر الذين أوجب الله لهم الطاعة والولاء، لقد كان في هذه القصة عبرة ومزدجر لمن يتولى غير مواليه، ويعرض أُمَّته ووطنه للخطر الذي يبتغيه.

إن ذلكم العرض الكبير في نفسه، الرخيص في نظر كعب وإخوانه، يمثل درساً عملياً لما يجب أن يكون عليه المسلم من الوفاء لأمته ووطنه، وألّا يساوم عليه بشيء مهما كان مغرياً، فإنه ليس بشيء أمام خسارة الوطن وخيانة العهد.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر