البحث عن ميروسلافا الأوكرانية

د. كمال عبدالملك

عام كامل مرّ على مراد منذ جاءته رسالة من ميروسلافا، زوجته الأوكرانية الحسناء.

كانت قد ذهبت إلى كييف لزيارة أهلها ولم تعد. انقطعت أخبارها، لا رقم هاتفها يعمل ولا البريد الإلكتروني ولا الأرضي.. ولا المصارف وشركات تحويل الأموال، فالحرب الطاحنة الدائرة هناك قطعت كل سبل التواصل معها.

كل مساء كان يجلس ويتصفح ما كتبه في دفتر ذكرياته عن رحلتهما معاً إلى Legrena «ليجرناه» قرية ساحلية في اليونان تقع في الطريق إلى معبد بوسيدون، ويتأمل صورته مع «ميركا» وتنتقل عيناه مباشرة إلى ما خطّه بيده من ذكريات الرحلة..

«كان ذلك بعد منتصف الليل عندما خرجنا. لم يكن هناك أحد على شاطئ البحر. خيّم الهدوء وبدت أضواء قرية ليجرناه الساحلية بعيدة، لكن أمواج البحر كانت لاتزال تتكسر بإيقاع خافت على الشاطئ. كان هناك قارب واحد يتأرجح على الأمواج، وكان هناك وميض يتمدد مسترخياً عليه.

على واجهة البحر استرحنا على مقعد ليس بعيداً عن السياج، ونظرنا إلى البحر، صامتين. قبل بزوغ الفجر بقليل، لم تكن ليجرناه مرئية من خلال الضباب. وقفت الغيوم البيضاء بلا حراك. توقف حفيف أوراق الشجر، صمتت صراصير الليل بينما كان صوت البحر المجوف الرتيب يرتفع من أعماقه، كأنه إرهاص باسم السكينة الآتية، السكينة الحقيقية، السكينة التي تسبق النوم الأبدي الذي ينتظر البشرية جمعاء».

«هل هذا هو الحال في مملكة الموت الأخرى، نستيقظ وحدنا في الساعة التي نرتجف فيها من الحنان؟» انطلق لساني يتلو من الذاكرة أبياتاً من قصيدة للشاعر ت. س. إليوت. هل سينتهي كل شيء على هذا النحو، تدمّرنا الحروب وعندها لن تكون هناك لا ليجرناه، ولا واجهة بحرية هنا، ولا أوكرانيا ولا قاهرة ولا إسكندرية هناك؟ هل ستبدو الحياة وكأنها غير مبالية ورتيبة عندما نرحل جميعاً عنها؟ وفي هذه الرتابة الكونية، في هذه اللامبالاة الكاملة بحياة وموت كل واحد منا، هل سيبقى أمل بضمان حركة الحياة المتواصلة على الأرض بعدنا والتقدم المتواصل للأجيال القادمة نحو الأفضل؟

بزغ الفجر على استحياء وبدت «ميركا» بجانبي امرأة شابة جميلة وهادئة ورقيقة في هذه الأجواء السحرية - البحر والأشجار والغيوم والسماء المفتوحة لهذه القرية اليونانية - ورأيت أن كل شيء جميل في هذا العالم عندما نتأمله، كل شيء نفكر فيه أو نفعله عندما نكون بجوار من نحبّ.

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر