المستثمر الرقمي

محمد سالم آل علي

نعيش اليوم في عصر التطورات التكنولوجية السريعة التي نجحت في اقتحام كل المجالات والصعد، حتى إننا صرنا نتعايش معها في كل ركن وزاوية، ففي المنزل هناك الأدوات الذكية وملحقاتها التي تسهر على راحتنا في الليل والنهار، وفي العمل هناك برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تحل محلنا وتجعلنا أقرب إلى التقاعد يوماً بعد يوم، أما في المدراس والجامعات فهناك «روبوتات» الدردشة التي أصحبت صديقاً وفياً لكل من الطلاب والمدرسين على حد سواء، إلا أن ما سأتطرق إليه اليوم هو جانب آخر يتمثل في تأثير هذا التطور المتسارع على عالم الأعمال والاستثمار، خصوصاً مع ظهور المنصات الذكية والأدوات الرقمية التي غيرت من دور المستثمر بشكل كبير، إلى أن بتنا نسمع اليوم عن ظهور سلالة جديدة تماماً من المستثمرين، سلالة رقمية تستند إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي عند اتخاذ قرار الاستثمار.

ولعلكم الآن تقولون في أنفسكم: وداعاً إذاً أيها المستثمرون البشريون، فلا قِبل لكم بمثل هذا المنافس، ولا أمل لكم بعد اليوم في عوائد الاستثمار.. كيف لا والمستثمر الرقمي باستطاعته الوصول إلى مجموعة هائلة من البيانات، مثل التحليلات والتقارير وبيانات السوق في الوقت الفعلي، ناهيكم بقدرته على فهم اتجاهاتها وتحليلها باستخدام خوارزمياته المتطورة، وفي وقت قياسي أيضاً لا يقارن بالوقت الذي يستغرقه المستثمر البشري؛ ما يسمح في نهاية الأمر باتخاذ قرارات استثمارية سريعة وقائمة على البيانات، بعيداً عن التحيزات والعواطف التي تميز البشر، وما يتخللها أيضاً من احتمالية اتخاذ قرارات متهورة أو غير عقلانية مدفوعة بالحالة النفسية للمستثمر، أو بتقلبات السوق وسواها من العوامل والأحداث الخارجية.

والأهم من ذلك كله هو أن هذا المستثمر الرقمي، أي «الروبوت»، يتميز بدرجة عالية من القناعة والرضا والتصالح مع الذات، فلا هو يتقاضى رسوماً ونسباً مئوية من العوائد، ولا هو يبخل بالنصائح وإرشادات الاستثمار، ما يجعل الأمر تجربة مريحة وسهلة ومتاحة أمام الجميع، سواء كانوا أفراداً يهوون المغامرات المالية، أو متخصصين من أصحاب المحافظ الصغيرة، أو شركات كبرى ومؤسسات تُعنى بالمضاربة والتداول، أو غيرها من مكونات عوالم الاستثمار.

كما أنه لا يخفى على أحد أن المستثمر الرقمي يتبنى فوراً جميع الاتجاهات التكنولوجية الناشئة، إضافة إلى قدرته الفائقة على التكيف مع أدوات الاستثمار المبتكرة، مثل العملات المشفرة وتكنولوجيا الـ«بلوك تشين» ومنصات التمويل الجماعي؛ أي أن صديقنا الرقمي قادر على التناغم مع مختلف الظروف والاتجاهات، وعلى التكيف بسلاسة مع المشهد الاستثماري المتغير، حتى إنه قادر أيضاً على الكشف عن فرص استثمارية فريدة وغير مسبوقة، ومن ثم تحليلها وتقييمها وتقديمها على طبق جاهز أمام أصحاب الأصول والأموال.

ومع ذلك كله، أريد أن أؤكد على أن المسألة لم تُحسم بعد، بل مازالت على أرض الميدان، وأقصد هنا المنافسة بين المستثمرين البشريين والرقميين، فعلى الرغم من صعود المستثمر الرقمي وتحقيقه نقلات نوعية في عالم المال والأسواق، مازال المستثمرون البشريون يمتلكون ذكاءً وحدساً خاصاً يمكنهم من النظر في عوامل تتجاوز البيانات والمقاييس البحتة، أي أن السنوات العديدة من الخبرة والتمرّس تزود المستثمرين البشريين برؤى ثاقبة تساعدهم على صياغة أفضل الاستراتيجيات، كما أن معرفتهم الواسعة بالسوق تمكنهم من فهم الأنماط واستنباط الاتجاهات، وبالتالي استباق تحولات السوق التي قد تخفى أو لا تكون واضحة تماماً أمام البرامج والخوارزميات.

لا أعلم لمن ستكون الغلبة على مدى السنوات القليلة المقبلة، فالبشر مشكلتهم العواطف والتسرع، بينما تعاني «الروبوتات» مخاطر الاختراقات وانتهاكات الخصوصية وما يرتبط بذلك من تحديات الأمن السيبراني، إلا أنني أستطيع أن أؤكد لكم أنه ومع استمرار التطور الهائل الذي نشهده اليوم، لابد من تغيرات جذرية ستطال مستقبل الاستثمار، وقريب جداً هو ذلك اليوم الذي سنرى فيه المستثمر الرقمي متربعاً في المقدمة، ورافعاً وحده رايات المكاسب والأرباح.

• المستثمر الرقمي يتميز بدرجة عالية من القناعة والرضا والتصالح مع الذات، فلا هو يتقاضى رسوماً ونسباً مئوية من العوائد، ولا يبخل بالنصائح وإرشادات الاستثمار.

مؤسس سهيل للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر