في تذوق الطعام والأدب

د. كمال عبدالملك

هناك أعمال إبداعية عالمية احتفت بالطعام، وجعلت منه جزءاً أصيلاً في السرد، مثل رواية «طعام.. صلاة.. وحب» للكاتبة إليزابيث جيلبرت. وبالطبع لا يمكن لنا أن ننسى حكايات «ألف ليلة وليلة»، بكل ما فيها من احتفاء بالطعام، وكذلك المقامة التي تنفتح على أدب الطعام والموائد في الثقافة العربية الإسلامية.

في «المقامة المضيرية» لبديع الزمان الهمذاني (1007) نقرأ وصفاً للمضيرة يتسم بالبلاغة والمبالغة (والمضيرة تشبه المنسف):

«كُنْتُ بِالبَصْرَةِ،.. فَقُدِمَتْ إِلَيْنَا مَضِيرَةٌ، تُثْنِي على الحَضَارَةِ، وَتَتَرَجْرَجُ في الغَضَارَةِ، وَتُؤْذِنُ بِالسَّلاَمَةِ، فِي قَصْعَةٍ يَزِلُّ عَنْهَا الطَّرْفُ، وَيَمُوجُ فِيهَا الظَّرْفُ.. وَبَقيتِ المَضِيرَةُ كَيْفَ اشْتُرِيَ لَحْمُها؟ وَوُفِّيَ شَحْمُهَا؟ ونُصِبَتْ قِدْرُها، وَأَجِّجَتْ نَارُها، وَدُقَّتْ أَزَارُها، حَتَّى أُجِيدَ طَبْخُها وَعُقِدَ مَرَقُها».

في روايته الشهيرة «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست (1922) نقرأ وصفاً رائعاً للراوي لقطعة الكعك المسماة petites madeleines (ماديلين الصغيرة). في أحد أيام الشتاء، يعود الراوي إلى منزل والدته، التي تقدم له الشاي وكعكة الماديلين الصغيرة، بعد يوم طويل وممل مع احتمال قدوم غدٍ كئيب لا يتطلع لقدومه:

«رفعت إلى شفتي ملعقة من الشاي التي نقعت فيها لقمة من الكعكة. ما إن لمس حنكي السائل الدافئ، والفتات معه حتى سرت رجفة في جسدي كله، وتوقفت حتى يتسنى لي تركيز انتباهي على التغييرات غير المألوفة التي كانت تحدث لي. لقد غزت حواسي متعة رائعة، مميّزة، منفصلة تماماً عن أصلها. شعرت بأنني من الآن فصاعداً لن أبالي لأي تقلبات قد تحدث في حياتي وأضحت الكوارث عابرة وغير ضارة.. هأنذا أتوقف الآن عن الشعور بأنني إنسان تافه تقتحمه العين، كائن فان نهايته الموت.. من أين، يا ترى، أتتني هذه البهجة الطاغية؟».

وفي رواية The Wind-Up Bird Chronicle، للكاتب هاروكي موراكامي (وُلد عام 1949) نقرأ وصفاً لبعض أكثر الوجبات التي لا تنسى في الأدب العالمي. في رواية أجواؤها سريالية، ومظلمة يطالعنا موراكامي بأوصاف بسيطة لوجبة عشاء:

«تناولت الغداء في الظهيرة وذهبت إلى السوبر ماركت. هناك اشتريت طعاماً للعشاء، واشتريت من طاولة بيع المنظفات والمناديل وورق التواليت. في المنزل مرة أخرى، أعدت الاستعدادات لتناول العشاء واستلقيت على الأريكة مع كتاب، في انتظار عودة Kumiko إلى المنزل.. لا يعني ذلك أنه كان لدي خطة لإعداد وليمة رائعة: سأقلي شرائح رقيقة من اللحم البقري والبصل والفلفل الأخضر، وبراعم الفاصوليا مع القليل من الملح والفلفل وصلصة الصويا وقليل من البيرة - وصفة من أيامي الفردية. تم الانتهاء من الأرز، وكان حساء الميسو دافئاً، وكانت جميع الخضروات مقطعة إلى شرائح ومرتبة في أكوام منفصلة في طبق كبير، جاهز للاستخدام في المقلاة».

تظهر مثل هذه المشاهد بشكل متكرر في أعمال موراكامي. في كل مرة، يكون التأثير بطريقة تسيل اللعاب وتثير القلق. لاحظ بساطة القائمة، والتحضير المنهجي، والشعور بالوقت والانتظار.

يمتعنا الهمذاني بسخريته من شخصية المتطفل والمكدي ومبالغته الوصفية واللغوية لأكلة ذات شعبية في عصره تسمى «المضيرة».

ويكاد بروست، المبدع العظيم، أن يقنعنا في وصفه أن ملذات الحياة مجتمعة قد نجدها في شرب فنجان من الشاي مع قطعة من كعكة «الماديلين».

أمّا موراكامي فإنّ أوصافه للطعام تفعل بالضبط ما تفعله رواياته بشكل أفضل - فهي تأخذ الأمور العادية وتجعلها ليس فقط مميّزة بل ساحرة، محولّة بذلك الواقع المألوف إلى حلم.

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر