الهجرةُ والمهَاجَرة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

حلَّ علينا العام الهجري 1445، فاستشعرنا نحن المسلمين تاريخاً مجيداً نقلنا من ظلام الجاهلية والوثنية إلى نور الإسلام وصفائه وبهائه، هذا التاريخ الذي هو جزء من ديننا ودنيانا في عباداتنا ومعاملاتنا المادية والاجتماعية، فجعل لنا استقلالاً ذاتياً نعتز به في أنفسنا، ونتميز به عن غيرنا؛ لإدراكنا ما لهذه الهجرة من أثر عظيم على الرسالة التي كلف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحملها، وتبليغها العالمين، فإنه ما كاد يؤدي هذه المهمة في دار بعثته وموطن مولده مكة المكرمة وعند بيت الله الحرام على الوجه الذي يحب، مع حرصه الشديد على ذلك، لأن الله تعالى لم يشأ أن تجمع مكةُ شرف البعثة، وشرف التبليغ وإقامة الدولة الإسلامية، بل جعل لها منافساً وهي المدينة التي هي أحب البلاد إلى الله تعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ، فأسكني أحب البلاد إليك» فأسكنه الله المدينة.

هذه المدينة التي اختارها الله تعالى لنبيه لتكون دار مُهاجَرِه، وموطن انتقاله إلى ربه، كانت الهجرة إليها هي الأساس لذلك كله، فعندما يطلُّ العام الهجري يستشعر المسلمون هذه المعاني فيعتزون بها، ويقولون: إن الله تعالى أراد بنبيه ودينه خيراً مع ما كان في ظاهرها من العناء والقسوة على النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم لنصرة نبيهم، وحماية دينهم، ابتغاء فضلٍ من الله ورضوان، يستشعرها المسلمون فيعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام هجر البلد والولد والمال، من أجل أن يبلغ رسالة الله تعالى للعالمين؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وها هم المسلمون يعيشون نور الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى ديناً يتعبد إليه عباده به، هذا الدين الذي ميزهم عن غيرهم بصفاء فطرته، ونقاء منهجه، وعموم تشريعاته، ويسر تطبيقه، ومواءمته للفطرة الإنسانية، والتكريم الإلهي للإنسان، بينما يرون غيرهم على الضد من ذلك في كل شيء، فلا فِطرة، ولا عقيدة، ولا قيم، ولا إنسانية يعتزون بها كما يعتز المسلم.

هذه الهجرة التي تتجدد على هذه الأمة الإسلامية تحمِّلهم أمانة حملها، وصيانة معانيها، وذلك بالتمسك بدينهم الذي ارتضاه الله تعالى لهم، واقتفائهم سَنَن النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخبرهم أن الله تعالى سيتم نوره على البشرية، ويظهر دينه على الدين كله، فها هم ظاهرون في كل مكان من العالم، وصوتهم يبلغ المشارق والمغارب، ويهدي الله تعالى بهم من أحبَّه من عباده، فعليهم أن تكون الهجرة من المعاصي حاضرةً في أذهانهم، وهجرة التواني والكسل ظاهرةً في أفعالهم، وهجرة الاعتزاز بغيرهم ليستقلوا بقرارهم وما يحتاجون إليه في حياتهم، وهجرة عدم الركون إلى الدنيا فلا تغرهم، وهجرة أهل الأهواء المضلة فلا يتبعونهم، إلى غير ذلك من المعاني التي تعنيها كلمة الهجرة الشاملة، كما يشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجَر ما نهى الله عنه»، وقد نهى الله تعالى المؤمنين أن يعتزوا بغيرهم، ونهاهم عن التواكل والبطالة، ونهاهم عن اتباع أهل الهوى والضلال، ونهاهم عن الاغترار بالدنيا، كما نهاهم عن فعل المعاصي والسيئات وترك الواجبات، إلى غير ذلك من المنهيات التي تدخل في مفهوم ما نهى الله تعالى عنه، فهذه هجرات باقية لابد من شد الحيازيم لها، لنبلغَ المسير الذي يوصلنا إلى نتائج الهجرة العظيمة التي وصلها المهاجرون الأولون، فنالوا رضوان الله وحسن المآب.

الهجرة تعني للمسلم الشيء الكثير، فلا ينبغي أن يكون غافلاً عنها، فلذلك يعتني بتاريخها في كل معاملاته، لتذكره بمجده وعزه.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المهاجرين إليه في ديننا ودنيانا.

وكل عام وأنتم بخير.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر