«تريد أن تعرفني؟ اقرأني»

تخيّلوا أنّ إعلاميّاً يحصل على مقابلة صحافيّة مرئيّة أو مكتوبة - لا فرق - مع فيروز، تجيبه عن مئات علامات الاستفهام حول حياتها أو فنها، هي خبطة العمر للصحافي، لكن هو حلم الملايين من عاشقي فنّها.

خطر لي هذا حين وصلني خبر وفاة الكاتب التشيكي/الفرنسي العالمي «ميلان كونديرا»، فلقد أَجريتُ مئات اللقاءات الإعلامية على امتداد مسيرتي في التلفزيون، وأعرف جيداً قيمة أن تخصّك شخصية قليلة الظهور في المقابلات كـ«حنا مينة» أو «عادل إمام» بحوار - وهو ما حدث معي - يعطي قيمةً مضافةً لمسيرتك المهنية.

قاطع ميلان كونديرا المقابلات الصحافية بكل أنواعها قرابة 40 سنة، فآخر ظهور له كان في برنامج «فواصل» مع «برنارد بيفو» سنة 1984، والغريب أن هذا الظهور نفسه كان يحمل بذرة اختفائه بعد ذلك حين قال فيه «تمنيت لو أنّني كتبت كلّ ما كتبته تحت اسم مستعار، لا ينقصني الطموح، ولكنّني أفضّل أن أبقى لا مرئيّاً».

قد يكون السبب المباشر لهذه المقاطعة مقنعاً إلى حدّ ما، فقد اكتشف «كونديرا» سنة 1985 حواراً مزيّفاً باسمه في إحدى الصحف الأميركية، فقرّر مقاطعة الإعلام وقال «منذ ذلك التاريخ كلّ شيء متعلّق بي يتمّ التّصريح به، زائف ولا علاقة لي به» فقطع الطريق على آلاف المقولات التي يتداولها رواد وسائل التواصل الاجتماعي الآن، مع أنّ بعضها مستلّ من كتبه. بل كان رأيه في الصحافة يقطر مرارة اختصره بقوله: «في البلدان الشمولية تدمّر الشرطة الحياة الشخصية للأفراد، وفي البلاد الديمقراطية يتكفّل الصحافيّون بذلك» مما يستدعي إلى الذاكرة ما فعلته الصحافة بحياة «الأميرة ديانا».

وقد خرق «كونديرا» هذا القرار الذي اتّخذه مرةً واحدةً فتحدّث إلى وكالة الأنباء التشيكية سنة 2008 ونفى ما اتُّهم به من التعاون مع البوليس السري والتّسبب في الحكم على معارض تشيكي شهير بالسجن.

وأكثر ما كان يغيظ صاحب «المهزلة» أن يَختصر النقّاد والصحافيّون رواياته في بعدها السياسي فقط واعتباره «جندياً فوق دبّابة»، وهذا ما جعله يقرّر بحزم أنّ كتبه هي الناطق الرسمي عنه فقط، فبعد تحويل رواية «كائن لا تحتمل خفّته» من قبل «فيليب كوفمان» إلى السينما، أنكر كونديرا الفيلم ورفض بعد ذلك تحويل أيٍّ من رواياته إلى الشاشة.

لقد كان «ميلان كونديرا» التطبيق الفعلي لنظريّة «موت الكاتب» البارتية، فاستطاع في مدينة الأنوار «باريس» أن يغلّف حياته الشخصيّة بالعتمة، ويحفظ خصوصيّاته عن أعين المتلصّصين والفضوليين وطالبي السّبق الصحافي، تاركاً لهم بضع كلمات تجيب عن كلّ تساؤلاتهم: «تريد أن تعرفني؟ اقرأني».

DrParweenHabib1@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة