في الثقافة القمرية

د. كمال عبدالملك

يبدو لي أن ثقافتنا العربية ثقافة قمرية، تحتفي بالليل، وتغني أغانيها ومواويل طربها لليل وأشجانه ومواجعه ومسراته.

يقول المتنبي:

ألخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي

                      وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ

ولم يقل «الخيل والنهار..»، كأنما الوقت يبدأ أولاً بالليل الذي يعقبه النهار.

ويقول الحصري القيرواني:

يا ليلُ الصبُّ متى غدُه           أقيامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ

رقدَ السُّــــمَّارُ فأَرَّقـــه           أســــفٌ للبيْنِ يردِّدهُ

وكان يمكنه أن يقول «يا نهار الصبّ..» دون الإخلال بالمعنى المقصود.

والحكايات تسرد في الليل، والمسامرة لا تحلو إلا في ليلة مقمرة.

بالنسبة لي أنا أكاديمي في الصباح، وكاتب رواية في الليل؛ فشعاع الشمس هو شعاع خطاب العقل المباشر، خطاب البحث والتحليل الأكاديمي الصارم. من الصعب أن أكتب في دفتر يومياتي في وضح النهار. شيء يتعلق بأشعة الشمس يتعارض مع الإبداع؛ من الأفضل لي أن أكتب في عتمة المساء عندما يغمر الكون ضوء القمر. أعتقد أن ثقافتنا العربية هي ثقافة قمرية، فأنا أجدني أكتب إبداعاتي بشكل أفضل بعد غروب الشمس، وفي عتمة المساء، فمن المستحيل عليّ الاستمرار في كتابة رواية والشمس تسطع في عينيّ وتلفح وجهي.

لا يمكن للخيال والإبداع أن يتفعّلا إلّا في عتمة الليل، كما في حكايات ألف ليلة وليلة «يدرك شهرزاد الصباح فتسكت عن الكلام المباح».

فما هذه الحكايات الليلية؟

كتاب «ألف ليلة وليلة»، المعروف في الغرب باسم The Arabian Nights Entertainment، يبدو أنه قد تبلور في شكله الحالي خلال هذه الفترة من الحكم المملوكي في مصر، وأضيف إليه حكايات إبداعية رائعة في أوائل القرن الـ18، كما أوضح المترجم الفرنسي أنطوان غالاند، عندما أضاف مغامرات السندباد إلى مجموعة الليالي العربية التي نشرها بين عامي 1704 و1720. تُظهر هذه الأعمال الأدبية الشعبية الاستخدام الماهر للغة العامية، والقصص الخيالية والآسرة للملوك والفقراء وسائر الجماعات المهمشة.

و«ألف ليلة وليلة» هي مجموعة من الحكايات والقصص من أصول ومصادر وأنواع متنوعة، ألهمت عدداً كبيراً من الأعمال وإعادة الإبداع في الأدب والفنون والرقص الموسيقي والعمارة في الغرب. نُشرت في عام 1704 للمرة الأولى بلغة أوروبية، قدم أنطوان غالاند Les Mille et une Nuits الترجمة الفرنسية، التي أعقبتها موجة من الترجمات إلى اللغات الأوروبية الرئيسة، وغيرها من اللغات.

العنوان الذي قدمه إدوارد لين لترجمته الإنجليزية لـ«ألف ليلة وليلة» هو The Arabian Nights Entertainment، وهو عنوان يشير إلى المستوى العالي للترفيه والتسلية مقابل العنصر التعليمي، الذي يميز أدب النخبة العربية، فليس من غير المألوف أن تصادف عناوين في التقليد الأدبي العربي الكلاسيكي تحمل كلمات ومفاهيم مثل العبرة والدرس والأخلاق والوازع والإرشاد؛ في المقابل يجد المرء أن حكايات الليالي العربية الشعبية قد تخلو من أي ادعاءات لهذه الأغراض التربوية، لأنها تسعى للترفيه عن القارئ/ المستمع. من الأشياء التي تعتبر متعة كبيرة للقراءة - الجني، والمصابيح السحرية، والسجادة الطائرة، والخيول الأبنوسية، والقصور الفخمة، وانغماس الفقراء في متع الحياة، والتغيرات المفاجئة في الأقدار والحظوظ التي نراها تحوّل الملوك إلى فقراء والفقراء إلى ملوك.

تظهر حكايات «ألف ليلة وليلة» وجه المسامرة الليلية، ولا تتردد في تقديم السرد كمتعة وكترفيه، على عكس الأدب النخبوي الفصيح بدلالاته الأخلاقية الصارمة والواضحة وضوح الشمس في منتصف النهار.

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر