«عنقاء» الشعر

د. بروين حبيب

كتبتُ في مقدمتي لكتاب «عاشق الكلمات»، وهي مختارات من شعر نزار قباني أصدرتها دار «هاشيت أنطوان نوفل» قبل أشهر: «عشقت شعره طالبة، ودرسته باحثة، وقدمت له التحية مراراً إعلامية، وحاولت جاهدة الفرار من قفصه الذهبي، والتحليق بعيداً في سماء مختلفة من الحرية والإبداع، فما بال هذه المختارات تعيدني إلى حبي الأول، إلى شعر عاشق الكلمات، مع أنني: كم قلت إني غير عائدة له... ورجعت، ما أحلى الرجوع إليه».

ولم أكن أدري أن ما كتبته أشبه بنبوءة عن ارتباط قدري بقدر نزار قباني، كما فصّلته في المقدمة المذكورة. ففي معرض أبوظبي للكتاب قبل أيام نشّطت ندوة عنه بعنوان: «في صحبة نازك الملائكة ونزار قباني» بمناسبة مرور 100 سنة على ميلادهما. وهذه السنة هي سنة نزار قباني بامتياز، إذ توافق أيضاً ربع قرن على رحيله. فماذا بقي منه؟ وهل صحيح أن مقروئيته تدنّت وقل الاهتمام بشعره بعد وفاته؟ وما دام الأمر كذلك، ما الذي يدفع داراً مهمة مثل «هاشيت نوفل» إلى إصدار مختارات من شعره في أربعة مجلدات؟

هناك مغالطة كبيرة انسحب ظلها على نزار قباني فظلمَتْه، فليس الوحيد المعني بتراجع المقروئية، بل هي ظاهرة لطالما اشتكى منها الناشرون وتفنّنوا في إيجاد الأسباب لها: فمن تركة جائحة كورونا والعزلة التي فرضتها على العالم، إلى عزوف الشباب عن القراءة لإدمانهم منتجات وسائل التواصل الاجتماعي.. إلى تراجع الشعر عموماً لصالح الرواية في السنوات الأخيرة، بل أقول بثقة، إن كل شاعر على الإطلاق - حتى من كان بحجم جماهيرية محمود درويش - إن قارنّاه بمبيعات دواوين نزار قباني تكون النتيجة محسومة سلفاً.

عشرات الطبعات غير الشرعية والمختارات تصدر سنوياً من دواوينه. زاد منها تهافت المطربين على غناء قصائده، ويكفي أن نذكر أن كاظم الساهر غنّى له أكثر من 40 قصيدة، وهو رقم يعادل كل من تغنّى بشعره من المطربين في حياته من فيروز إلى لطيفة، بل لا يزال راهناً، فنانسي عجرم غنّت له قبل ثلاث سنوات قصيدة «إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار».

سيبقى من يهاجم نزار قباني وقد حدث ذلك كثيراً في حياته، كما سيبقى من يتعصب له ويدافع عنه بحق أو بباطل، فهو ككل ظاهرة يختلف حولها دائماً المحب الغالي والمبغض القالي، ولكن بعقل بارد بعيداً عن التحيز العاطفي هل نتغاضى عن تأثيره في مروحة واسعة من الشعراء من سدنة عمود الشعر إلى «تجريبيي» الحداثة وما بعدها؟ أو ننكر أنه صنع من الشعر خبزاً يومياً بلغته وصوره، وأدخله أكواخ البسطاء وقلوب العاشقين؟ قليل من الإنصاف لا يضر!

• كل شاعر على الإطلاق - حتى من كان بحجم جماهيرية محمود درويش - إن قارنّاه بمبيعات دواوين نزار قباني تكون النتيجة محسومة سلفاً.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر