قرقنة عروس البحر الحسناء

د. كمال عبدالملك

قــــــــــــــــرقنة يا أرض القيــــم

يا أرض المروءة والهمم

ففيك تُراعــــــــــــــى الذمـــــــــــــــــم

وفيك تنال الرغائب

أنت يا أرض العجائب

(المشري الشلّي)

تقع جزيرة قرقنة في خليج قابس قبالة الساحل الشرقي لتونس، وهي الجنة المنسية والوجهة المثالية للمسافرين لقضاء العطلات.

لبّيت دعوة أصدقاء تونسيين لزيارة قرقنة. شعرت بالسعادة عند وصولي إلى ميناء صفاقس وصعودي إلى «البطّاح»، العبّارة التي تُقلّ المسافرين من الميناء إلى جزيرة قرقنة. توقفت العبارة عند الجزيرة الجنوبية الصغرى التي تتصل بالجزيرة الشمالية الكبرى عبر جسر. بدت قرقنة جزيرة هادئة ونحن في طريقنا إلى الفيلّا المعدّة لنا في منطقة أولاد يانق. الطريق هنا يمتد بلانهاية بمحاذاة الشاطئ.

جزيرة قرقنة خلابة تتميز بالقرى الصغيرة القريبة من الخلجان المحمية، وبأشجار النخيل والزيتون والكرموز (التين) التي تَعنّ لنا في كل مكان. الأطلال القديمة لقلعة الحصار تذكّرك بعراقة تاريخ هذه الجزيرة، فقد تم بناء هذا الحصن منذ ما يقرب من ألف عام.

قرقنة «أرض العجائب»، لا ريب في ذلك. هنا البحر يقسّم ويوزع على ملكيّات، بل يورّث ويباع تماماً كما تباع الأراضي على اليابسة، وهو أمر تنفرد به الجزيرة، ربما في العالم بأسره. ينضبط الأمر في جزر قرقنة للعرف، وفق نظام مخصوص يحدد طرق البيع وآليات التوريث، لكنه يدخل أيضاً تحت طائلة القانون التونسي الذي يسمح به، ويبتّ في النزاعات التي تحدث داخله.

وإذا صادف ودخلت عرساً في قرقنة فلن تجد أحداً يسألك عن بطاقة الدعوة، أو عن حضورك مع أهل العريس أو مع أهل عروسه، بل ستكون محل كرم وحفاوة بالغين، هذا علاوة على استمتاعك باحتفالات وفقرات تشبه عملاً مسرحياً متكاملاً.

يتميز أهل قرقنة بكرم ملحوظ، يولونني اهتماماً وحفاوة، يبتسمون دائماً لسماع لهجتي المصرية. أحد الذين قابلتهم كان «المنصف»، صانع القوارب الذي كان يخطط لإقامة وليمة للاحتفال بإطلاق قاربه «سناء».

سألته عن قرقنة بحرها وسحرها، أجابني ويده اليمنى تتحسس برفق منحنيات القارب.

قرقنة هي رهينة البحر لكنها أيضاً عروسه الحسناء. منذ بداية الخلق، وهذا البحر يعزل قرقنة عن بر تونس. ابتلع أعداداً لا تحصى من البشر ودمّر القوارب والسفن بلا هوادة، لكنه أيضاً - وبسخاء - وزّع الخيرات، ومنح الثروات.

بحر قرقنة ساحق مثل اللعنة ومانح مثل النعمة.

وأضاف بابتسامة عابثة: «موجات البحر في قرقنة مثل امرأة، تتلاعب بعواطفك.. تُظهر بعض الجمال وتخفي معظمه».

قفلت راجعاً وأنا أتذكر حلمي القديم أن أستقيل يوماً ما من الحياة الأكاديمية للعيش في جزيرة قرقنة، مع طيور النورس التي ستجلب لي الأسماك مشوية جاهزة، وأشجار النخيل التي ستنزّ شراباً مثل شراب «اللجمي»، وحوريات البحر الساحرات اللائي سوف يقمن بالغناء لي، بينما أخطّ أنا بقلمي رواية تتراقص فيها عرائس الخيال.

 باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

تويتر