ثقافة الوقف

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الوقف من إبداعات الفقه الإسلامي، وقد انتشرت ثقافته في العالم، فاستفاد منه الإنسان والحيوان والبيئة، وهو سنة مجمع عليها كما قال العلماء رحمهم الله تعالى، وقد كان ثقافة مجتمعية في عصور الإسلام المختلفة، لاسيما عصر صدر الإسلام، حتى قال الصحابي الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: «لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف»، أي حبَّس شيئاً من عقاره أو مزارعه أو غير ذلك مما يبقى أصله وتسبَّلُ ثمرته ونفعه، كل ذلك مسارعة في فعل الخير الذي حث عليه الله تعالى في آيات كثيرة، كما في قوله سبحانه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، فإن هذه الآية الكريمة تفيد أن البِرَّ شيءٌ عظيم لا ينال إلا بعظيم البذل، وهو الإنفاق من المحبوب، وأعظم المحبوبات للمرء هو المال الذي قد يحبه حُبًّا جَمّا، وهو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، فهذا أبوطلحة الأنصاري رضي الله عنه ما إن سمع هذه الآية الكريمة حتى قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾، وإن أحب أموالي إليّ بيرُحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبوطلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمه.

فانظر كيف فخَّم النبي عليه الصلاة والسلام هذا التصدق، وبيَّن له أن هذا هو الربح العظيم الذي يسعى العاقل إلى مثله، ثم نصحه أن يجعله في صلة أرحامه ليجمع بين عظيم أجر الوقف، وكبير ثواب صلة الأرحام، التي هي سبب للبركة في الرزق وطول العمر، كما ورد في حديث آخر، وهذا من كمال النصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن استنصحه، وهكذا فعل سيدنا عمر رضي الله عنه، فإنه لما أصاب أرضاً بخيبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب قط مالاً أنفس عندي منها، فما تأمرني فيها؟ فقال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث، فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقاً بالمعروف، غير متأثِّل فيه، أو قال: غير متموِّلٍ فيه.

وقد كان حال المسلمين في كل عصر ومصر على مثل هذا الحال من وقف أعز الأموال لما فيه نفع الإنسان نفسه بادخار الأجر عند ربه، حيث إنه الذي يبقى له بعد موته، وما فيه من نفع للآخرين، الذي يتبارى بمثله الفضلاء، فما كان العلم ينتشر إلا بفضل الوقف، ولا يعيش طلاب العلم والعلماء إلا بريع الوقف، وما كان المرضى يتعالجون إلا من بركة الوقف، بل إن الدواب والطير كان لها عناية كبيرة من الوقف، وقُل مثل ذلك في كثير مما يحتاجه الناس مما قل أو كثر.

وأجلُّ ما يكون فيه الوقف هو الإطعام والسقي اللذان بهما قوام الحياة، كما هو في «وقف المليار وجبة» الذي بادر إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وتسارع الناس فيه، فهنيئاً لمن كان له حظ من هذا الخير العميم.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر