«عصر الانحطاط».. نظرة جديدة

د. كمال عبدالملك

يطلق مؤرخو الأدب العرب عادةً على الفترتين المملوكية والعثمانية اسم «عصر الانحطاط»، بسبب التدهور العام في الإبداع وانتشار المؤلفات المليئة بالكليشيهات المبتذلة البالية. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا الحكم قد ينطبق على أدب النخبة المنظوم وفقاً للأشكال والأغراض والموضوعات الكلاسيكية، ولكنه لا ينطبق على الأدب الشعبي المصوغ باللهجات العربية المحكية، والذي يلبي أذواق وأهواء الأغلبية غير المتعلمة، لذلك فإن تدهور اللغة العربية الذي نوقش كثيراً في تلك الفترة كان في الواقع تدهوراً لأدب الفصحى كما يتضح من استياء الرحالة العظيم ابن بطوطة (1304-1369) من الأخطاء النحوية المؤسفة في خطب الوعاظ، فعندما وبّخ ابن بطوطة خطيباً له سجل سيئ من اللحن والأخطاء النحوية، برّر الشيخ استخدامه المتراخي لقواعد اللغة العربية بقوله: «لم يبق في هذه المدينة رجل يعرف شيئاً عن علم النحو».

خلال الفترة العثمانية (1500 - 1800)، تُظهر المؤلفات الشعرية والنثرية العربية ميزة مشابهة لما هو معروف في المصطلحات الطبية باسم «trans-genesis»، وهو مصطلح يشير إلى عملية إدخال جين خارجي - يسمى الجين العابر - في كائن حي بحيث يظهر الكائن الحي هذه الخاصية الجديدة، وربما ينقلها إلى نسله. قد يساعدنا هذا المصطلح الطبي على فهم ممارسة أدبية شائعة بين الأدباء العرب في العهد العثماني - أنا أشير هنا إلى ما يسمى بالتشطير والتخميس، حيث يمكن للشاعر أن يضيف في قصيدته بعض الأسطر من قصيدة أخرى لسلف مشهور على أمل خلق شيء جديد.

نلاحظ في هذه الفترة التوتر بين الأدب باعتباره دروساً ونصائح وعِبَراً، والأدب كترفيه. كلما تعمقنا في مجال الأدب الشعبي العربي صُدمنا بالمستوى العالي للترفيه مقارنة بالعنصر التعليمي المميز، إن لم يكن المفضّل، لأدب النخبة العربية. ليس من غير المألوف أن تجد عناوين في التقليد الأدبي العربي الكلاسيكي تحمل كلمات ومفاهيم مثل عبرة أو وعظ أو إرشاد، وحتى في العصر الحديث فإننا نجد المؤلف غالباً ما ينهي المقدمة بعبارات تنم عن التقوى مثل «والله من وراء القصد». في المقابل نجد أن الحكايات الشعبية في «ألف ليلة وليلة» قد لا يكون لها هذه الأغراض الوعظية أو التعليمية لأنها تسعى للترفيه عن المستمع/القارئ، وهناك العديد من التفاصيل التي تُسعده: الجنّي متقلب المزاج، والمصباح السحري، وبساط الريح، وفخامة القصور، والتغيرات المفاجئة في الثروات والحظوظ التي ترى الملوك يتحولون إلى فقراء والفقراء إلى ملوك. هذه النوعية من التسلية واللعب والمزح هي التي تميز هذه الروايات والخيال الشعبي الذي أبدعها.

في منظور أدب النخبة، اللَعِب أدنى قيمة من ضده الجِدّ، وعندما يتم استخدام اللَعِب والمزح بحكم الضرورة في الأعمال الأدبية، كان لابد من الاعتذارات والمبررات. ولكن عندما نأتي إلى الفترة العثمانية، نجد كتاباً مثل «نزهة الأدباء» لمحمد بن أحمد بن إياس الحنفي (القرن السابع عشر) وفيه يعترف صراحة بأن هدفه هو الفكاهة. قد ينطبق الشيء نفسه على الأعمال الأخرى ذات التأليف والاستهلاك الشعبي مثل «ألف ليلة وليلة» و«نوادر جحا» غير المهذبة التي تعرض حكاية تلو الأخرى تحتوي على قدر كبير من التلميحات الجنسية.

لذا فإن الأدب كترفيه على عكس الأدب بدلالاته الأخلاقية وأعرافه المجتمعية، يكشف عن بروز ثقافة شعبية نشطة ومُبدعة خلال هذه القرون الثلاثة تتناقض مع أدب نخبوي فصيح أصابه الوهن.

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

تويتر