هي طيبةٌ طابت بطيب محمد

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

طيبةُ الطيبة ليست كأي بلد يعرفه الناس أو يعيشون فيه؛ إنها بلْدة لا كسائر البلدان هي مأرِز الإيمان، وموئل تنزل القرآن، وفيها مثوى سيد الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، وفيها قامت دولة الإسلام، ومنها انطلقت قوافل الرحمن، تدعو لتوحيد الملك الديان، هي أحب البلاد إلى الله تعالى، وهي التي يعصمها الله من دخول الدجال، وهي التي تضاعف فيها البركة ضعفي ما بمكة وأكثر، وهي التي تنفي خبثها وينصع طيبها، وهي التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وهي التي من أخاف أهلها أخافه الله، وهي التي هيأ الله تعالى أهلها لنصرة رسول الله ونشر رسالته للعالمين، إنهم الأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، هم الذين استوجبوا رضوان الله تعالى مع السابقين الأولين من المهاجرين، هم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي التي فيها الخيرية الدائمة كما قال عليه الصلاة والسلام: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون».

هذه المدينة المنورة التي تنورت بقدوم رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء..»، وهي طيبة التي يطيب فيها كل شيء، كما قال الشاعر المُجيد:

هي طيبة طابت بطيب محمد * وبعزه عزت وعز رُباها

هذه المدينة الفاضلة التي تهوي إليها قلوب المؤمنين ليجدوا فيها أريج الإيمان، ويتشرفوا بالسلام على سيد الأنام، فيرد عليهم السلام، حقها أن تزار وإن شطَّت بالزائر الدار، كما قالوا:

زر من تحب وإن شطَّت بك الدارُ * وحال من بعدها حجبٌ وأستارُ

لا يمنعنَّك بعدٌ عن زيارته * إن المحب لمن يهواه زوارُ

فإن زيارتها جلاءٌ للقلوب؛ لما فيها من تجليات إلهية، بالنظر إلى آثار سيد الأبرار والمهاجرين والأنصار، وكأن لسان حالهم يقول:

هذه آثارُنا تدل علينا * فانظروا بعدنا إلى الآثار

وما فيها من ترسم سيرتهم آناء الليل وأطراف النهار، فإن تذكر مآثرهم تحمل على السير في مناهجهم الإيمانية والروحانية، في نصرة خير البرية عليه الصلاة والسلام، والتعلق بتلك المآثر هو تعلق بأصحابها وسيرهم المرضية، على حد قول مجنون ليلى:

وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حبُّ من سكن الديارَ

هي المدينة التي اختارها الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام لتكون منطلق دعوته وتواري جسده الطاهر دون سائر المدن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه عليها، وهي التي أحبته جبالها، وأصبحت تربتها أطيب تربة بعد أن كانت أوبأ البلاد.

هذه البلاد التي كان جبريل عليه السلام يتنزل في عرصاتها بالآيات البينات، والتشريعات الواضحات، لتستضيء البشرية بهدي الله ونوره المبين.

أرض مشى جبريلُ في عرصاتها* والله شرف أرضها وسماها

هذه هي المدينة، وهذه طيبة، وهذه طابة، وهذه الدار، التي كانت تسمى يثرب، من التتريب وهو الفساد لما كان فيها من احتراب واقتتال لا يتوقف، فأصبحت طيبةَ من الطيب والحسن، فحلَّت بها المحاسن كلها الدينية والدنيوية، ففيها تزكو الأعمال، وفيها تبارك الخيرات، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة.

لذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه كثيراً ما يدعو فيقول: «اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم».

 «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

 

تويتر